في جولته الخليجية المكوكية لم يحسم وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون الأزمة المُسْتصنعة بين قطر وغريماتها الأربع: وهي السعودية ومصر والإمارات والبحرين، والتي باتت تُعرف باسم دول المقاطعة الأربع، فلم يضغط تيلرسون جدياً على هذه الدول للقبول بالحل، ولم يتقدم بأي مُبادرة جادة تُظهر ثقل دولته لحمل تلك الدول حتى على مجرد الجلوس على طاولة المُفاوضات، واكتفى فقط بتخفيف حدة النزاع وعدم تطويره، وتركه للزمن فقال: "نُطالب بعدم التصعيد من قبل الأطراف في المنطقة، ندعو قطر إلى الاستجابة لشواغل جيرانها، قطر لديها تاريخ بدعم مختلف الجماعات التي امتدت على نطاق التعبير السياسي، من الناشط إلى العنف، وأمير قطر حقق تقدماً في الحد من تمويل (الإرهاب)، وطرد عناصر (إرهابية) من دولته، ولكن عليه فعل المزيد، وبشكل أسرع"، فعباراته جاءت عامة غير حاسمة، فطالب قطر بالاستجابة لمطالب جيرانها دون أنْ يُحدّدها، وطالب الدول الأربع المُناهضة لقطر بتخفيض سقف مطالبها دون تسميتها، بل إنّه اعتبر مطالبها (غير منطقية وغير قابلة للتنفيذ)، وكانت النتيجة الطبيعية لهذه الرخاوة الأمريكية في العمل السياسي مع تلك الدول هي عدم استجابة قطر لأيٍ من مطالب الدول الأربع، وتمسك الدول الأربع بمطالبها ورفع شعار (لا تنازل عن المطالب الـ 13).
أدركت قيادة دولة الإمارت التابعة لبريطانيا نوايا هذه السياسة الأمريكية المائعة، وأنْ لا نهاية سريعة لهذا النزاع، فقال أنور قرقاش وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية: "لن تكون هناك نهاية سريعة للخلاف بين قطر والدول العربية الأربع التي تقاطعها"، وأضاف: "نحن متجهون إلى قطيعةٍ ستطول، الحقيقة أننا بعيدون كل البعد عن الحل السياسي المرتبط بتغيير قطر لتوجهها، وفي ظل ذلك لن يتغير شيء، وعلينا البحث عن نسق مختلف من العلاقات".
لم تُقدّم قطر أي تنازلات للدول الأربع، وإنّما قدّمت تنازلات كبيرة لأمريكا لتُخفّف عنها العقوبات، ولِتُقلّل من وقع الحصار الصارم عليها، فبالإضافة إلى شرائها لطائرات الإف 15 بأحد عشر مليار دولار، ومُساهمتها بتمويل عدة مشاريع أمريكية بمليارات أخرى من الدولارات، فقد وقّعت على مذكرة تفاهم مع أمريكا بشأن ما يُسمّى بتعزيز مُكافحة تمويل (الإرهاب)، وقّعها تيلرسون نفسه مع نظيره القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، وكان من الطبيعي وعلى ضوء عدم وجود ضغط، وعدم وجود وساطة حقيقية أنْ تعتبر هذه الدول الأربع أنّ هذه الخطوة: "غير كافية لتبديد مخاوفها"، وأكّد المسؤولون فيها على إبقاء فرض العقوبات على قطر حتى تلبي مطالبهم الـ 13، والتي من أهمّها إغلاق شبكة الجزيرة الإخبارية، وتقليص العلاقات مع إيران، وإغلاق القاعدة العسكرية التركية في الدوحة.
فالإدارة الأمريكية إذاً هي من صنع الأزمة وهي ليست معنية بحلّها، بل ظاهر عليها أنّها راغبة في إطالة أمدها، لتبقى الأمور في منطقة الخليج بيدها، تتحكم بها كما يحلو لها، فهي ليست مُهتمة إلاّ بما يؤثر على مصالحها، ومن أهم مصالحهااستمرار وجود قواعدها العسكرية، وانصياع جميع دول المنطقة لرغباتها، واستنزاف ثرواتها لتصب في خزينتها، وقد أكّد القادة العسكريون الأمريكيون أكثر من مرّة أنّ الأزمة الخليجية لم تؤثر على سير العمليات العسكرية الأمريكية المنطلقة من قطر، وهو ما يهم الإدارة الأمريكية بالدرجة الأولى.
أرادت أمريكا من خلال فرض ذلك الحصار الخانق على قطر بسط هيمنتها على دول الخليج التابعة لبريطانيا، وبشكل خاص على إمارة قطر التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى خلية نحل نشطة للتشويش على السياسات الأمريكية من خلال قناة الجزيرة، وفضحها، وكشف مراميها، وكذلك من خلال الدعم المالي والسياسي للمُناوئين للسياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.
أمّا بريطانيا فاضطرت للانحناء أمام تلك العاصفة الأمريكية، فاستعانت من جهة بألمانيا وفرنسا للقيام بدور الوساطة المُخفّفة للتصعيد الذي يُمارسه عملاء أمريكا لا سيما السعودية، ومن جهةٍ أخرى قامت بإرسال وزير خارجيتها بوريس جونسون للقيام بدور سياسي مُوازٍ لدور تيلرسون، وأشركت معه مستشار الأمن القومي البريطاني مارك سيدويل الذي قام بالدور الدبلوماسي الأفعل إلى جانب دور تيلرسون في الكويت، وكان للاجتماع الثلاثي الذي جمع سيدويل وتيلرسون مع وزير الخارجية الكويتي صباح خالد الحمد الصباح في الكويت أبلغ الأثر في تخفيف الاحتقان الذي بلغ حداً غير مسبوق قبيل الاجتماع، وكانت نتيجته إرسال دعوة أمريكية بريطانية كويتية مُشتركة إلى الدول المُتخاصمة للتهدئة وعدم التصعيد.
وهكذا تبيّن للمُتابعين في الشأن السياسي أنّ هذا النزاع ما هو إلا صناعة أمريكية، وأنّ الأطراف الرئيسية المُتنازعة فيه تتبع لأمريكا وبريطانيا، وأنّ أمريكا أخذت فيه دوراً هجومياً من خلال السعودية بشكلٍ خاص، وأنّ قطر تابعة بريطانيا خضعت لأمريكا وقدّمت لها الأموال، كما قبلت بتوقيع مذكرة تفاهم أمنية مع الإدارة الأمريكية تتدخل أمريكا من خلالها بأخص الشؤون القطرية.
لكن وبعد كل ذلك الخضوع القطري للابتزازات الأمريكية، وللتأكيد على استمرار ولاء قطر لبريطانيا وعدم سقوطها تحت براثن النفوذ الأمريكي، قامت بريطانيا بإجراء مناورة عسكرية ليوم الجمعة، 14 تموز/يوليو، أجرت فيها القوات البحرية الأميرية القطرية والقوات البحرية البريطانية تدريبات عسكرية في المياه الإقليمية القطرية وواضح أنّ هدفها هو القيام بكل ما يجب القيام به للدفاع عن سيادة الدولة القطرية في حال تعرّضت فيه لأي هجوم من قبل أعدائها، وذلك بالرغم مما قيل عنها أنّه كان مخطط لها قبل اندلاع الأزمة.
وهكذا تتلاعب أمريكا وبريطانيا بحكام دول الخليج، فتستنزف طاقات هذه الدول، وتُهدر ثرواتها، وتُبقيها دولاً تابعةً لا تتحرّك إلا بتوجيهات خارجية، ولا تخدم في تحرّكاتها إلا أهداف من يُحرّكها.
إنّ دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة القادمة قريباً بإذن الله تعالى هي وحدها التي تملك القدرة على إنهاء هذه السيطرة الغربية الاستعمارية المُطلقة على دول الخليج، وهي المؤهلة للتصدي لمؤامرات جميع الدول الطامعة في كل بلاد المسلمين.
رأيك في الموضوع