مع أن أمريكا في ختام حالة البطة العرجاء، إن لم نقل الكسحاء، وهي في مرحلة الانتقال الرئاسي، علت نبرة الحديث عن الحراك السياسي نحو "حل الدولتين"، مع إطلاق "رؤية كيري الشاملة"، وهذا المقال يسلط الضوء على تلك الرؤية ومفاعيلها.
تضمنت تلك الرؤية "ستة مبادئ كبرى"، كأساس لمفاوضات الحل النهائي، أهمها الدولة الفلسطينية "غير المعسكرة"، مجاورة لدولة "للشعب اليهودي"، مع حفظ أمنها، والتخلّي عن عودة اللاجئين عبر التعويض، والقدس كعاصمة للدولتين مع "حماية وتأمين حرية الوصول إلى المواقع الدينية"، ومن ثم التطبيع الشامل حسب "مبادرة السلام العربية" (موقع أمد 28/12/2016).
إن من نافلة القول، التذكير بأن الرؤية الأمريكية لحل قضية فلسطين على أساس "حل الدولتين" انطلقت منذ منتصف القرن الماضي، مع انطلاق أمريكا خارج قارتها، وذلك عندما قررت رعاية هذا الكيان واستخدامه كأداة من أدوات سياستها الخارجية. وقد انطلقت تلك الرؤية في الاجتماع المفصلي الذي عقده وكيل وزارة الخارجية الأمريكية جورج ماغي بالسفراء الأمريكيين في مؤتمر استانبول عام 1950م، وتبلورت عنه توصية استراتيجية للبيت الأبيض لفصل السياسة الأمريكية عن السياسة البريطانية، وكانت بريطانيا تسعى في "حل الدولة الواحدة" متعددة الطوائف، ومن ثم عملت أمريكا على دفع هيئة الأمم المتحدة على تنفيذ مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، مع تدويل القدس.
ولذلك ما الجديد فيما وصفه الإعلام برؤية كيري من أن حل الدولتين "هو الطريق الوحيد إلى السلام" والتي أطلقها قبل أيام وهو يرحل مع رئيسه خلال أيام؟
وهنا يبرز سؤال سياسي آخر: ما القيمة الواقعية لهذا الحراك؟ وخصوصا عندما نستحضر سجل المناكفات السياسية الطويل بين نتنياهو والديمقراطيين، وخصوصا خلال الثماني سنوات العجاف من عجرفة ومشاكسات نتنياهو لأوباما، والتي أوصلت الأخير للإفصاح عن إحباطه مع نهاية مرحلة رئاسته الأولى.
ذلك يكفي للتدليل على أن هذا الحراك - من ناحية التأثير الواقعي - هو صرخة في واد أو نفخة في رماد من قِبَل مودع محبط ومنهك من العقلية الليكودية التي لم تتزحزح قيد أنملة عن مواقفها الرافضة لانتقاص السيادة عن كل فلسطين.
أما على صعيد التفاعل العربي مع رؤية كيري، فهل ثمة من جديد في المواقف العربية؟
بداية، ليس غريبا ما ذكرته الحدث نيوز (29/12/2016) من أنه "ما أن انتهى جون كيري من كلمته، التي ألقاها مساء الأربعاء 28/12/2016... حتى جدد الرئيس الفلسطيني محمود عباس التزامه بالسلام العادل خيارا استراتيجيا". فالسلطة الفلسطينية - منذ أُوجدت - هي سنّ في الدولاب الأمريكي الذي يجر قطار حل الدولتين، وليس لها غير اللهث خلف الوعود الأمريكية. ولم تكترث لما تضمنت الرؤية من يهودية الدولة، عند تخصيصها "للشعب اليهودي"، وصمتت فصائل فلسطينية عن ذلك على وقع دغدغة المشاعر في التصويت على القرار الأممي لوقف الاستيطان!
وكذلك رحبت الدول العربية بالرؤية، فذكرت الحرة (29/12/2016) أن "الأردن ومصر يؤيدان خطاب كيري حول النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي". وجاء الترحيب السعودي لرؤية كيري، كما في خبر وكالة الأناضول (29/12/2016): "السعودية ترحب بمقترحات كيري حول الحل النهائي للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي".
وهذا يذكّر من جديد بسجل آل سعود - وهم يجرّون معهم الدول العربية - في اللهث خلف حل الدولتين الأمريكي: إذ إن السعودية كانت قد أطلقت ما وُصفت مبادرة السلام العربية والتي ترتكز إليها رؤية كيري من أجل التطبيع الشامل.
وتعود جذور تلك المبادرة إلى تجاوب الملك الأسبق فهد بن عبد العزيز مع تحركات الرئيس الأمريكي الأسبق ريغان عام 1982، عندما طرح على الدول العربية "مشروع الملك فهد للسلام في الشرق الأوسط"، ثم أصبح مشروعا للسلام العربي، بعدما حشد فهد لمشروعه التأييد العالمي والإقليمي. ثم جدد الملك السعودي السابق عبد الله، مبادرة السلام، وتبنتها القمة العربية في آذار 2002، وأصبحت تسمى المبادرة العربية للسلام.
لذلك فإن السعودية ظلّت دائما تتجاوب مع كل تحريك أمريكي لإنهاء ملف القضية، وظلّت تدفع باتجاه حل الدولتين، رغم ما فيه من مناقضة للثوابت الإسلامية ومخالفة للأحكام الشرعية التي تدّعي أنها تلتزمها، ويطبّل فيها علماؤها لولي الأمر، مع التغافل عمّا يدّعونه من (عقيدة الولاء والبراء)، ودون أدنى حراك في المحاسبة السياسية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما يتعلق بأرض الإسراء والمعراج، التي هي جزء من عقيدة المسلمين.
ليس ثمة من شك في أن القبول بمقترح كيري (أو الحل الأمريكي لقضية فلسطين)، هو اعتراف بكيان يهود واغتصابه لما يقرب من ثمانين بالمئة من أرض فلسطين، وهو خيانة لله ولرسوله وللمسلمين.
فأيّ جريمة تلك التي ارتكبها الحكّام في نقل الحراك السياسي من خانة حشد الأمة على مشروع التحرير إلى اللهث خلف مشروع أمريكي للمفاوضات؟ وذلك بالتزامن مع جريمتهم في تحريك قضية فلسطين من خانة القضية الإسلامية، إلى العربية ثم الوطنية، إلى أن أوصلوها لتكون قضية فصائلية، لا تحلّ إلا بالتوافق الفصائلي على مشروع حل الدولتين؟!
ومن نافلة القول أيضا التذكير بأن الحل الصحيح والشرعي لقضية فلسطين، هو التحرير لا التفاوض، وهو يفرض على الأمة حشد جيوش المجاهدين لا تحريك وفود المفاوضين، ويوجب أيضا رفض المفهوم المضلل لما يسمّى بالشأن الداخلي، والتذكير بأن فلسطين هي جزء من بلاد المسلمين الواحدة، وليست مرتعا لمنظمة التحرير، ولا إقطاعا لمنتفعيها.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
رأيك في الموضوع