لقد بات مألوفاً لدى الكثير من المُتابعين لِمُجريات الأحداث في سوريا أنّه كلّما تمّ الإعلان عن تفاهمات جديدة وهدن جديدة في سوريا من قِبَل وزيري خارجية أمريكا وروسيا، اشتد القصف واستحرّ القتل وزادت معاناة المدنيين والأبرياء، فما يجري على سبيل المثال في مدينة حلب من تدمير هائل ومُمنهج، ما هو إلا نتيجة طبيعية لتلك التفاهمات التآمرية، والأنْكى من ذلك أنّه لم يعُد خافياً على أحد أنّ طائرات الحقد الروسي،ومعها طائرات النظام الطاغوتي الغادر، باتت تتعمّد اختيار أهدافٍ مدنيةٍ لتقصفها، فأصبحت المستشفيات ومراكز الدفاع المدني وطواقم الإسعاف وعُمّال الإغاثة وقوافل الإمدادات الإنسانية من الأهداف المشروع قصفها لدى تلك الطائرات، هذا فضلاً عن قصف المدارس والأفران والأسواق ومخيمات الإيواء، وقد طال القصف الشديد الذي تعرضت له المدينة يوم الجمعة الماضي محطة مياه باب النيرب التي توفر الماء لحوالي 250 ألف شخص في المناطق الشرقية من المدينة، وهو ما تسبّب بقطع المياه عن نحو 1.5 مليون شخص في شطري المدينة.
وأصبح يتم التغطية على ما يجري في سوريا من حرب إبادة بمناكفات ومهازل سياسية رخيصة مفضوحة تجري بين المسؤولين الأمريكيين والروس، وتحميل كل طرف المسؤولية على الطرف الآخر، ودعاوى زائفة تُثير السُخرية بعدم الالتزام بما تمّ الاتفاق عليه من بنود غالبيتها سريّة لمْ يُكشف عنها، قال لافروف في مؤتمر صحفي يوم الجمعة 23/9/2016 إنّ: "الهدنة التي انهارت الاثنين بعد فرضها بصعوبة في مطلع سبتمبر (أيلول) بفضل جهوده ونظيره الأمريكي لا سبب لوجودها، ما لم تفك المعارضة السورية ارتباطها بالمجموعات الجهادية الإرهابية"، وتابع: "إنّ غض النظر عن قيام جبهة النصرة بتمويه مواقعها من خلال التعاون مع فصائل معتدلة لتفادي التعرض للقصف، ليس هو ما اتفقنا عليه"، ويُفهم من هذا التصريح أنّ كيري متفقٌ معه في تفاهمات جنيف التي أعْلِنت في 9 أيلول/سبتمبر الجاري على عدم وقف القصف ما لم يتم الفصل بين الفصائل، وهو أمرٌ يستحيل تطبيقه في أيام، وهو ما يعني أنّ أمريكا مُتواطئة مع روسيا حقيقةً على هذا القصف، وتتظاهر كذباً بأنّها تستنكره، وتُلقي باللائمة على روسيا لتُبرئ نفسها من ارتكاب تلك الجرائم التي تُعتبر وفقاً للقانون الدولي جرائم حرب، بينما هي متفقة تماماً مع روسيا عليها، ودافع لافروف بدوره عن الموقف الروسي بمطالبة أمريكا بـ"إثبات أنها تتمتع بالنفوذ لدى الفصائل على الأرض"، وقال: "لا أعتقد أن ذلك مطلب كبير"، وأوضح قائلا: "مع الأسف لم يتمكن التحالف بقيادة الولايات المتحدة، الذي التزم بالفصل بين الجماعات المعتدلة والمتشددة"، وقد نصّ الاتفاق الروسي الأمريكي على إمكانية الخروج منه: "إذا اعتبر أحد طرفيه أن بنود الاتفاق لم تُنجز".
ولتضييع حقيقة ما ترتكبه الدولتان من جرائم حرب بحق أهل سوريايعزون الفشل المتكرر في تطبيق (تفاهمات كيري لافروف) إلى الخلافات بين مراكز صنع القرار الأمريكي، فيُقال بأنّ البنتاغون غير راغب بالاتفاق، وأنّ الوزير آشتون كارتر قد أعرب عن رفضه الصريح له، ورفضه القيام بالتنسيق مع روسيا، فيما تسعىروسيا بكل ما أوتيت من قوة لانتزاع المزيد من (التفاهمات) من جون كيري قبل رحيل الإدارة الحالية لتعزيز مكانتهم إلى جانب أمريكا في الموقف الدولي.
على أنّ الحقيقة الساطعة لهذا التفاهم الأمريكي الروسي الغامض تتجلّى في الإبقاء على بشّار الأسد في هرم السلطة إلى حين يتم ترتيب الأوضاع في سوريا بما يحفظ مصالح أمريكا في المنطقة بشكلٍ مضمون، فروسيا تقوم بالدور المطلوب منها أمريكياً على أحسن وجه، وأمريكا لا تمارس عليها أية ضغوطات جدية لوقف عدوانها ومجازرها، مع أنّها قادرة على ذلك بكل تأكيد، وهو ما يعني أنّها هي التي أعطتها الضوء الأخضر للقيام بهذا العدوان السافر، وبهذه الأعمال القذرة التي تترفّع أمريكا عن القيام بها، وتتبرأ منها، وتُلصقها بالروس، بينما روسيا تجهد في إثبات أنّ أمريكا مشتركة معها في الجريمة.
أمّا أوروبا فتُطالب بدورٍ لها في هذه المعمعة فقد قال وزير الخارجية الفرنسي جان مارك آيرولت: "إنّ التعاون الأمريكي الروسي بلغ أقصى حد له"، مضيفاً أن: "الوقت قد حان للانتقال إلى مقاربة أكثر شمولية"، وقد راعت أمريكا هذه المطالب الأوروبية - من ناحية شكلية فقط - فقامت بإشراك فرنسا وبريطانيا معها في اجتماعٍ ثلاثي عُقد يوم الأحد الماضي، تمّ فيه تحميل روسيا مسؤولية خرق الهدنة، وطالبوها بالسماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة، وتمخضّ الاجتماع عن رفع الموضوع إلى مجلس الأمن، وهو أقصى ما يُمكن فعله بالنسبة إليهم.
وهكذا فإنّ التفاهمات الأمريكية الروسية التي صاغها كيري ولافروف هي من أخبث وأخطر المؤامرات التي حيكت ضدّ ثورة الشام حتى الآن، فتحت ستار الإعلان عن الهدنة المزعومة يتم إحراق وتدمير سوريا، وقتل أهلها، والتنكيل بهم، وتهجيرهم، وتمزيق لُحْمَتِهم، لحملهم على الاستسلام، ولإخضاعهم للخطة الأمريكية الإجرامية الرامية إلى القضاء على ثورة الشام، وعلى كل مسعىً إسلامي تحرّري، بل وعلى كل نَفَس إسلامي فيها.
لكنّ صمود أهل الشام الأسطوري، وتصميم الثوّار على القيام بالتغيير الجذري بإرادة من حديد، وعزيمة من فولاذ، وعلى المُضي قُدُماً في ثورتهم حتى إسقاط نظام الطاغية بِكل مكوناته وهياكله ورموزه، وإصرارهم على إقامة الخلافة على منهاج النبوة على أنقاض حكمه، ويقينهم بأنّ النصر بات قريباً منهم، وبأنّ حُسْنَ توكلِهِم على العزيز القدير، هو أقوى من تفاهمات كيري ولافروف، وأكبر من كل المؤامرات الأمريكية والدولية والإقليمية التي تُحاك ضد بلاد الشام، وسيعلم الذين طغوا أنّهم إلى موارد الهلاك سائرون.
رأيك في الموضوع