بعد قرابة الستين عاماً من فرض أمريكا حصاراً خانقاً على كوبا، وبعد تصنيفها ضمن الدول الراعية للإرهاب، وبعد تاريخ طويل وحافل بالتوتر والعداء بين الدولتين، يُعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن فتح صفحة جديدة في العلاقات مع كوبا تتضمن خططاً متنوعة للتطبيع معها، وتبدأ هذه الخطط بتكثيف الاتصالات الدبلوماسية بين البلدين، وبإعادة فتح السفارات المغلقة في العاصمتين، وتخفيف القيود المالية الأمريكية المفروضة على كوبا، ورفع الحظر التجاري عنها، وتنتهي بشطب اسم كوبا من قائمة الدول السوداء التي تُصنّفها أمريكا كدولٍ راعيةٍ للإرهاب، وبرفع سائر العقوبات عنها، وتطوير مختلف العلاقات بين أمريكا وكوبا بوصفهما أصبحتا دولتين جارتين صديقتين وليستا عدوتين لدودتين.
قال أوباما: "نحن جاران ويمكننا الآن أن نكون صديقين"، وتحدّث باللغة الإسبانية التي يتحدث بها أهل كوبا فقال: "نحن كلّنا أمريكيون"، وأعلن أوباما عن فتح عهد جديد مع كوبا ودعاها إلى الانفتاح على أمريكا وإلى نشر الحرية والديمقراطية، أي دعاها للدخول في الرأسمالية من بابها الأمريكي.
والسؤال المُلِحّ الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي أسباب هذا التغيير الجذري في العلاقات مع كوبا والتي تمّ قلْبها رأساً على عقب، وما هي أهدافه؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال دعونا نستعرض، وبعُجالة، أهم المحطّات التي مرّت بها العلاقات بين الدولتين:
في العام 1895 طلبت أمريكا من إسبانيا وهي الدولة المستعمِرة السابقة لكوبا الجلاء رسمياً عن الأراضي الكوبية، وأعقب ذلك خوض كوبا - وبدعمٍ أمريكي واضح - حرب الاستقلال ضد إسبانيا، واشتركت أمريكا نفسها في نهاية الحرب، وأسفرت عن خروج الإسبان من كوبا في العام 1898، ولكنّها بعد أن تخلّصت من إسبانيا خضعت لهيمنة أمريكية طويلة المدى، تمثّلت في القواعد العسكرية والاستثمارات الاقتصادية والحكام العملاء.
في العام 1959 اكتسح الشيوعيون بقيادة فيدل كاسترو وبتخطيط من تشي جيفارا العاصمة هافانا، وأسقطوا نظام حكم الدكتاتور فولغنسو باتيستا الموالي لأمريكا، واستلم كاسترو الحكم واستقر في كوبا وأعلنها دولةً اشتراكية، بينما استمر جيفارا بالقتال، وبإشعال الثورات الأممية الشيوعية في دول أمريكا اللاتينية الأخرى ضد أنظمة الحكم الموالية للاستعمار والرأسمالية العالمية والأمريكية.
في العامين 1960 - 1961 أمّمت كوبا مصافي التكرير التي تملكها الولايات المتحدة، واستولت على شركات أمريكية أخرى في كوبا، وقطعت علاقاتها مع الولايات المتحدة وأقامت علاقات مع الاتحاد السوفياتي، وردّت أمريكا بفرض الحظر على الصادرات الكوبية، وبدعم المرتزقة من الكوبيين المنفيين في محاولتهم غزو خليج الخنازير والتي مُنِيت بالفشل الذريع.
في العام 1962 اندلعت أزمة الصواريخ بين أمريكا وروسيا، وانتهت بتفكيك روسيا لصواريخها في كوبا مقابل تفكيك أمريكا لصواريخها في تركيا، ومنذ ذلك التاريخ فرضت أمريكا الحصار الخانق على كوبا، واتُخّذت الأزمة ذريعة لإعادة هيكلة الموقف الدولي وجعله ثنائي القطبية، ومن ثمّ تحكم الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وحدهما في المسرح الدولي، وإضعاف منافسيهما الدوليين بريطانيا وفرنسا والصين.
في العام 1980 سمحت الحكومة الكوبية لرعاياها - ولأول مرّة - في ظل حكم كاسترو بمغادرة الأراضي الكوبية، وهو ما أدّى إلى خروج 125000 كوبي دفعةً واحدة إلى أمريكا عن طريق البحر في عملية هروب كبيرة سُمّيت بعملية مارييل.
في العام 1991 انهار الاتحاد السوفياتي، وغادر العسكريون الروس على نحو مفاجئ قاعدة لوردس القريبة من هافانا، وتوقفت المساعدات الاقتصادية الروسية إلى كوبا، وهو الأمر الذي أدّى إلى تأزم الوضع الاقتصادي لكوبا الضعيف أصلاً.
في العام 1994 هاجر 40000 كوبي إلى أمريكا بسبب الضائقة الاقتصادية.
في العام 2008 تنحى فيدل كاسترو عن السلطة بسبب الكِبَر والمرض، وتسلم شقيقه الأصغر راؤول حكم كوبا.
ما بين الأعوام 2009 – 2013 بدأ راؤول كاسترو بإدخال سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية الرأسمالية في كوبا، والابتعاد تدريجياً عن الالتزام بالقوانين الاشتراكية، والتوسع في تنشيط القطاع الخاص، والسماح بالمزيد من الحريات الرأسمالية في البلاد، وهو ما ساهم في تبرير إدارة أوباما السماح للأمريكيين بإنفاق أموالهم في كوبا.
ما بين العامين 2014 – 2015 تمّ إجراء مفاوضات سرية بين الأمريكيين والكوبيين في كندا والفاتيكان وبمشاركة البابا نفسه فيها، وتمّ تتويجها بالإعلان عن إعادة العلاقات بين الدولتين وتبادل السفراء بينهما.
وفي هذا العام 2016 قام الرئيس الأمريكي باراك أوباما بزيارة كوبا في خطوة هي الأولى من نوعها منذ 88 عاماً.
إن قرب كوبا الجغرافي من أمريكا جعل أمريكا تنظر إليها ليس بوصفها دولة من دول أمريكا اللاتينية وحسب، بل جعلها تعتبرها جزءاً جوهرياً من منظومتها الأمنية الداخلية، فكانت تستقبل المهاجرين الكوبيين بعشرات الآلاف، وتُعاملهم معاملة الأمريكيين، وكانت تُراعي مصالح الكوبيين، حتى ولو كانوا من الشيوعيين المعارضين لسياساتها، فترى أمريكا في كوبا جزيرةً تبتعد عنها بمسافة مرمى الحجر، فهي امتدادها الجغرافي الحقيقي، وقد دخلت أمريكا حرباً مع إسبانيا من أجل كوبا، ولوّحت بحرب نووية عالمية ضد الاتحاد السوفياتي إن لم يسحب صواريخه منها، وكان الحصار الذي فرضته أمريكا على كوبا حصاراً بالدرجة الأولى على الدول المنافسة والدول الكبرى قبل أن يكون حصاراً على كوبا نفسها.
لذلك كانت خطوة عودة العلاقات مع كوبا خطوة طبيعية لا بد منها مع جارة قريبة لأمريكا، قال أوباما: "إنّ ذوبان الجليد في العلاقات بعد خمسة عقود يحدث بعدما رأينا أنّ السياسة الجامدة التي عفا عليها الزمن فشلت فيما مضى في أن يكون لها تأثير على كوبا"، فالهدف من الحصار إذاً هو التأثير وبسط النفوذ في كوبا، وليس القضاء عليها أو إضعافها أو إنهاكها وترويضها، وأضاف: "اليوم نُجري هذه التغييرات لأنّها الأمر الصواب، اليوم تختار أمريكا أنْ تفك أغلال الماضي لنصل إلى مستقبل أفضل للشعب الكوبي وللشعب الأمريكي، ولهذا النصف بأكمله من الكرة الأرضية وللعالم".
فأمريكا تُريد لكوبا أنْ تبقى في فلكها إلى ما لا نهاية لما تُمثّله من أهمّيّة استراتيجية عُظمى بالنسبة لها، ولو كانت كوبا دولة شرق أوسطية لفعلت بها ما تفعله في العراق وسوريا من تدمير وتفتيت وقتل وإبادة، فهي تنْظر إليها نظرة الأمريكي إلى شقيقه الأمريكي، وليس نظرة الأمريكي إلى الآخر، لذلك وجدناها تُراعي كوبا في زمن الحصار كما تُراعيها في زمن السلام.
لذلك كان التغيير الانقلابي في العلاقات الأمريكية مع هذه الدولة الكوبية التي ما زالت تحمل بقايا الإرث الشيوعي بمثابة تغييرٍ في الأساليب أكثر منه تغييراً في المبادئ، فالاشتراكية لم تكن سوى شعارات تُغلّف من ورائها علاقات سرية بين الإدارات الأمريكية وبين كاسترو الذي كان ظهيراً حقيقياً للأمريكيين ضد الشيوعيين الأصليين الذين قادهم تشي جيفارا، في زمنٍ علا فيه نجم الشيوعية والاشتراكية.
وكذلك استخدمت أمريكا علاقات كوبا مع الاتحاد السوفياتي لتتقاسم النفوذ العالمي مع الروس، ولتحجيم فرنسا وبريطانيا والصين في الموقف الدولي، فكوبا لم تكن يوماً تُشكّل أي خطر حقيقي على الأمريكيين، وكانت في الغالب ألعوبة بيد السياسيين الأمريكيين لتمرير المخطّطات الدولية.
فالأخَوان كاسترو إذاً هما بالنسبة للإدارات الأمريكية المتعاقبة مجرد أدوات أمريكية لبسط النفوذ الأمريكي في أمريكا اللاتينية وفي العالم، وكوبا مجرد فناء للحديقة الأمريكية ليس إلاّ.
وبعد زوال الخطر الشيوعي، وانتهاء الألاعيب السياسية الأمريكية في أمريكا اللاتينية وفي العالم، لم يعُد مكان لكوبا في الاستمرار في لعب هذا الدور الخادم للمصالح الأمريكية، بوصفها أداة سياسية عالمية، ومع انتهاء دورها الوظيفي هذا كان لا بُدّ من عودتها التدريجية إلى تبعيتها الطبيعية والدائمة لأمريكا، فاقتضى الأمر من الإدارة الأمريكية مُلاينتها، وجرّها إلى ملعبها الاقتصادي والسياسي، ومن ثمّ دمجها في منظومتها الإقليمية دمجاً كاملاً.
وهذه النقلة النوعية في العلاقات مع كوبا التي استعجل بها أوباما هذه الأيام، لا شك أنّها تُستغلّ من قبل الحزب الديمقراطي باعتبارها إنجازاً مهمّاً للحزب، فإنْ لم تقم بها إدارة أوباما الحالية فستقوم بها قطعاً الإدارة المقبلة، لذلك سبق أوباما بها أيّة إدارة قادمة، وسجّل لسجلّه الشخصي ولحزبه بها سبقاً وإنجازاً.
رأيك في الموضوع