في عهد ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، تجاوزت السلطات القضائية والتنفيذية في ألمانيا خطوط الدستور المبدئية وعلى وجه الخصوص المادة الأولى التي يتغنى بها الساسة والقانونيون والتي تنص في أولى فقراتها على أن "كرامة الإنسان لا يجوز المساس بها. وباحترامها وصونها تلتزم جميع السلطات في الدولة". فبناء على هذه المادة فإنه من غير المقبول "دستوريا" أن تنقض الشرطة لمداهمة بيت أو اعتقال إنسان دون ثبوت جرمه أو شبهة جرم مع بيِّنة يقبلها القاضي المختص فيسمح بناء على البينات للهيئة التنفيذية سواء الشرطة أو إدارة حماية الدستور أو حرس الحدود أو غيرها بتنفيذ القانون في حدوده ودون تجاوزات.
ولكن الحاصل منذ استحداث ما يسمى بقانون مكافحة (الإرهاب) وعلى إثر أحداث العنف التي حصلت في مدن أوروبية ومحاولات تفجيرات في ألمانيا تم كشفها وإحباطها عبر وسائل استخباراتية كانت في الغالب تعارض الدستور الألماني، الحاصل أنه تم إطلاق يد وزارتي الداخلية والعدل لاستخدام القانون دون محاسبة برلمانية أو دستورية بحجة الحفاظ على الأمن. ولسان حالهم يقول "من يعارض هذه الإجراءات يعرض البلد للخطر ويعتبر مساندا للإرهاب". وبذلك ألجموا أفواه المعارضة الحزبية والشعبية ولم يعد أحد يجرؤ على محاسبة الأجهزة الأمنية أو القضائية على مخالفاتها الدستورية.
عندما داهمت الشرطة الألمانية بيوت شباب حزب التحرير في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2002 واعتقلت 25 شابا لم يكن حينذاك نشاط الحزب محظورا، ووزارة الداخلية تعلم تماما أن الحزب أبعد ما يكون عن استخدام العنف في طريقته أو أساليبه، وبالرغم من ذلك فقد تجاوزت المادة الخامسة من الدستور، والتي تنص في أولى فقراتها على أنه "يحق لكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول والكتابة والصورة". فروَّعت الشباب وأهلهم وأبناءهم في ساعات الفجر بحجة مكافحة (الإرهاب). وبالرغم من عدم ثبوت شيء من هذه الدعاوى ضد الحزب والإفراج عن الشباب لاحقا، إلا أن إصرار الداخلية الألمانية ممثلة آنذاك بالوزير أوتو شيلي دفعهم لمعادوة المداهمة في كانون الثاني/يناير من عام 2003 في ساعات الفجر أيضا مع التشديد على ترويع الشباب ومعاملتهم معاملة غير لائقة وإهانتهم وتدنيس بيوتهم بالكلاب، رغم أن قرار الحظر لم يكن قد صدر بعد، حيث تزامن مع حملة التفتيش وأعلن عنه في صبيحة يوم 15 من شهر كانون الثاني/يناير عام 2003. وجاء في البيان الذي أصدرته الوزارة أن "نشاط حزب التحرير يتعارض مع مبادئ التعايش بين الشعوب التي ينص عليها الدستور الألماني. واتهم الحزب بتأييد استخدام العنف كأداة لتحقيق أهدافه السياسية. وحسب بيان الوزارة فإن حزب التحرير ينكر حق دولة يهود في الوجود وينادي بإنهائها ويروج لدعاية تحريضية معادية لليهود وينادي بقتلهم". وقد كان الحزب خاضعا للمراقبة من قبل إدارة حماية الدستور رغم عدم ثبوت أية حجة دستورية تستدعي مخالفة المادة الخامسة/ الفقرة الأولى المذكورة آنفا والتي جاء في آخرها ما نصه "ولا يجوز فرض رقابة على ذلك".
ومجددا استخدم وزير الداخلية الألماني دو ميزيير الأسلوب نفسه في حظر جماعة "الدين الحق" التي اتهمت بالتحريض على (الإرهاب) وتجنيد الشباب للذهاب إلى الجهاد في سوريا والعراق مساندة لتنظيم الدولة.
لم تكن هذه الجمعية تشكل جماعة أو حزبا ولم يُعلَم عنها توجه فكري محدد سوى الانتساب إلى عموم الحركة السلفية، وهدفها المعلن هو تمكين الألمان من التعرف بشكل صحيح على الإسلام، ونجحت الجماعة بتوزيع أكثر من مليوني نسخة من القرآن الكريم. وقد تمت طباعتها في مطابع ألمانية بعد موافقة وزراة العدل على ذلك واعتبارها عملية غير ضارة ولا تلاحق قانونيا، وقد سبق للحكومة الألمانية أن اعتبرت هذه الجماعة سلمية ولم تتخذ تجاهها إجراءات دستورية.
إلا أن اللافت للنظر هو ازدياد الضغوط على الدولة من قبل المتطرفين الألمان الذين نجحوا في استقطاب فئة كبيرة من الناس لصالح فكرتهم المعادية للأجانب وعلى وجه الخصوص المسلمين فيما بات يعرف بحركة "بيجيدا" والتي تعني "الحركة الوطنية الأوروبية المعارضة لأسلمة الغرب". وقد نجحت هذه الحركة بعد تأسيس حزب البديل الألماني في دخول البرلمان في عدد من الولايات نجاحا أقلق الأحزاب الشعبية الأخرى الحاكمة والمعارضة منها مما دفعهم للحديث عن ضرورة الحد من هذا التقدم للشعبوية والوطنية المفرطة المعادية للأجانب وكذلك المتطرفة، وذلك عبر إجراءات صارمة وبرامج هادفة تتبنى مصالح الشعب وتسعى لاستقرار الوضع السياسي والاجتماعي.
وقد وجدت الدولة نفسها أمام معضلة مجتمعية وسياسية خصوصا بعد استمرار المستشارة ميركل في سياسة استقدام المهاجرين من سوريا والتي شكلت من وجهة نظر حزب البديل الألماني، والمتطرفين اليمينيين عبئا على المجتمع من الناحية الاقتصادية والأيديولوجية حيث يشكل ازدياد عدد المسلمين في ألمانيا خطرا على نسيج النصارى في المجتمع. بالإضافة إلى التبعات المالية التي ارتبطت بتوطين المهاجرين واندماجهم. وبرزت المطالبة بإيقاف الهجرة، وطرد المهاجرين، وعدم قبول اندماجهم في المجتمع، وازدادت المطالبة بحظر النشاطات الدعوية، وإغلاق المساجد ودور تعليم القرآن، وحظر الحجاب والنقاب، وغير ذلك من الإجراءات القمعية للإسلام والمسلمين، وصارت الأحزاب الكبيرة الحاكمة حاليا بموجب الائتلاف الكبير مطالبة باتخاذ إجراءات صارمة قُبيل الانتخابات القادمة في العام المقبل.
ولذلك نلاحظ التوسع الإعلامي المرافق لعملية الحظر وإظهار الصرامة والحزم في عملية المداهمة والتأكيد على مصادرة الأملاك والكتب والمصاحف ومنع طباعتها واعتقال شباب الجمعية وإبراز اتصالهم بتنظيم الدولة، والتأكيد على محاربة (الإرهاب) كما جاء في تصريح دو ميزيير: "نريد أن نقول عبر الرسالة التي نبعث بها اليوم، أن لا مكان في ألمانيا للإسلاميين". وأضاف: "لا نريد الإرهاب في ألمانيا، لا نريد وجود دعاية للإرهاب في ألمانيا أو تصديره من ألمانيا".
وهذه الرسالة موجهة في الوقت نفسه إلى أصحاب الميول اليمينية لتشعرهم أن الدولة (أي الأحزاب الحاكمة) قادرة على اتخاذ إجراءات صارمة توافق تطلعات الشعب إلى الأمن والاستقرار المجتمعي والديني وذلك عبر محاربتها للدعوة إلى الإسلام على كافة الأصعدة ومختلف التوجهات.
إذن ليس هناك أيُّ معنى لتصريح الوزراة"إن حظر اليوم غير موجه ضد توزيع نسخ القرآن أو ترجمة معانيه بل موجه ضد إساءة استغلال الدين من جانب أشخاص يروجون للأفكار المتطرفة ويدعمون المنظمات الإرهابية تحت ستار الإسلام". حيث تم منع طباعة ترجمة المصاحف ومصادرة ما في المستودعات، ومنع نشاط التوزيع ذاته.
القضية أصبحت أكثر وضوحا وجلاء للمسلمين المقيمين في ألمانيا وفي أوروبا بشكل عام، حيث لم يعد هناك ما يمكن إخفاؤه أو التدليس به في معاداة الدول للإسلام وإبراز الإسلاموفوبيا في المجتمع وتخويف الشعوب من الإسلام والتهديد بخطره المحدق بهم، فبعد أن لم يفلحوا في مواجهة الإسلام فكريا عمدوا كما هي حال قريش الجاهلية إلى تشويه الإسلام ومعاداة أهله. في فجر يوم كتابة هذا الموضوع داهمت قوات الأمن بشكل مكثف بلغ عدد المشاركين فيه 160 من قوات الدرك مسجدا صغيرا في مدينة كاسل بألمانيا (مسجد المدينة) لا تزيد مساحته عن 200م2 بتهمة أنه قد غادر من رواده عدد من الفتيان للجهاد في سوريا، رغم أن هذا المسجد يتبع لجماعة التبليغ والدعوة وليس للجماعة السلفية ورواده ليس لهم توجه فكري معين. فالمقصود هنا حقيقة هو إرهاب المسلمين وتخويفهم وتطويعهم للقبول بما تمليه عليهم الحكومة الألمانية من مبادئ وقوانين.
ومن المضحك أن الحزب الديمقراطي المسيحي (حزب ميركل) قام بتوزيع نسخ من الدستور الألماني بلغات عديدة مجانا في مواجهة مبادرة "اقرأ" التي تعنى بتوزيع نسخ القرآن مترجما، وذلك قبل الحظر المضروب، والذي يخالف نصوص هذا الدستور نفسها.
يبدو أن ألمانيا - كغيرها من دعاة الديمقراطية والحريات - تقف على مفترق طريق يستدعي القرار بين الحفاظ على الأمن أو المحافظة على المبدأ!
بقلم: م. يوسف أحمد – ألمانيا
رأيك في الموضوع