الدولة الإسلامية دولة مبدئية، وعملها الأصلي أي وظيفتها هي حمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، فمن المحتم عليها بل جزء من تكوينها، أن تكون لها مكانة دولية، وأن تؤثر في العلاقات الدولية، ولذلك كان لا مناص من أن تكون المفاهيم السياسية التي عند السياسيين مفاهيم السياسة الدولية لا مفاهيم السياسة المحلية، أو السياسة الإقليمية، أي كان لا مناص للسياسيين بوصفهم الإسلامي من أن يكون لديهم المفهوم السياسي من ناحية دولية، لا من ناحية محلية أو إقليمية فحسب، ومن هنا كان لا مناص لهم من ناحية كون الدولة دولة إسلامية من أن يتمتعوا بالوعي السياسي الكامل. فإسلاميتهم، وكون دولتهم دولة إسلامية - وظيفتها الأصلية والأساسية حمل الدعوة الإسلامية إلى العالم - تحتم عليهم أن يكون لديهم الوعي السياسي، وأن يكون هذا الوعي السياسي كاملاً.
والوعي السياسي لا يعني الوعي على الأوضاع السياسية، أو على الموقف الدولي، أو على الحوادث السياسية، أو تتبع السياسة الدولية والأعمال السياسية، وإن كان ذلك من مستلزمات كماله.
وإنما الوعي السياسي هو النظرة إلى العالم من زاوية خاصة، وهي بالنسبة لنا من زاوية العقيدة الإسلامية، زاوية لا إله إلاّ الله محمد رسول الله «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّد رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا». هذا هو الوعي السياسي.
فالنظرة إلى العالم من غير زاوية خاصة تعتبر سطحية، وليس وعياً سياسياً. والنظرة إلى المجال المحلي أو المجال الإقليمي تفاهة، وليس وعياً سياسياً، ولا يتم الوعي السياسي إلا إذا توفر له عنصران: أن تكون النظرة إلى العالم كله، وأن تنطلق هذه النظرة من زاوية خاصة محددة، أياً كانت هذه الزاوية، سواء أكانت مبداً معيناً، أم فكرة معينة، أم مصلحة معينة، أم غير ذلك.
هذا من حيث واقع الوعي السياسي كما هو، وبالطبع هو بالنسبة للمسلم من زاوية معينة هي العقيدة الإسلامية. هذا هو الوعي السياسي، وما دام هذا واقعه، فإنه يحتم طبيعياً على السياسي أن يخوض النضال في سبيل تكوين مفهوم معين عن الحياة لدى الإنسان، من حيث هو إنسان في كل مكان، وتكوين هذا المفهوم هو المسؤولية الأولى التي ألقيت على كاهل الواعي سياسياً، والتي لا تنال الراحة إلاّ ببذل المشقة لأدائها.
والواعي سياسياً يتحتم عليه أن يخوض النضال ضد جميع الاتجاهات التي تناقض اتجاهه، وضد جميع المفاهيم التي تناقض مفاهيمه، وفي الوقت الذي يخوض فيه النضال لتركيز مفاهيمه، وغرس اتجاهه. فهو يسير في اتجاهين في آن واحد، لا ينفصل أحدهما عن الآخر في النضال قيد شعرة، لأنهما شيء واحد، فهو يحطم ويقيم، ويهدم ويبني، يبدد الظلام ويشعل النور، وهو كما قيل ناراً تحرق الفساد، ونوراً يضيء طريق الهدى. وكما يدخل في تركيز المفاهيم، وغرس الاتجاهات، تنزيل الأفكار على الوقائع، والبعد عن التجريد والمنطق، كذلك يدخل في النضال ضد الاتجاهات، النضال ضد المطاعن التي تهاجم مفهومه عن الحياة، وضد مفاهيم الأعماق التي جاءت من العصور الهابطة، وضد التأثير التضليلي الذي يبثه الأعداء عن الأفكار والأشياء، وضد اختصار الغايات السامية، والأهداف البعيدة، بغايات جزئية وأهداف آنية. فهو يناضل في جبهتين: داخلية وخارجية، ويناضل في اتجاهين: اتجاه الهدم، واتجاه البناء، ويعمل على صعيدين: صعيد السياسة، وصعيد الفكر، وبالجملة هو يخوض معترك الحياة في أسمى ميادينها وأعلاها...
عن كتاب أفكار سياسية لحزب التحرير
رأيك في الموضوع