لقد جعل الله سبحانه وتعالى في شريعته موازين لا بد من وزن أمورنا عليها، فقدم الله الفرض على النفل، حتى قال العلماء: "من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور"، وقد روي عن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه قوله: "إن الله تبارك وتعالى لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة".
وقدم الله أداء الفرض المضيق الوقت على الفرض الموسع الوقت، ورتب أولويات بين الفروض إذا تزاحمت، فأذن لمن يشتغل بإنقاذ حياة معصومة أن يؤخر صلاته اضطرارا، وقد أخر النبي ﷺ ومعه الصحابة الصلاة في حصار الحديبية حين اشتدت عليهم الهجمة من الكفار؛ ولذلك وجب على المسلم النظر فيما يقوم به من أعمال صالحة فيرتبها كما يأمر الشرع لا وفق ما يعجبه هو.
وفي المقابل كانت الذنوب والمعاصي مراتب؛ فمنها الصغائر التي تذهب بالوضوء والصلاة، ومنها الكبائر والموبقات المهلكات، بل إن من المعاصي ما تذهب بأجر الأعمال الصالحات وتحرم صاحبها من استجابة الدعاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّباً... ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!» رواه مسلم.
وجاء في معصية ترك الصلاة ما روى البخاري في صحيحه، من حديث بريدة قال: بَكِّرُوا بِصَلَاةِ الْعَصْرِ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ». وقال ﷺ: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ صَلُحَتْ صَلُحَ لَهُ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ».
ومن عظيم الذنوب التي يُخشى معها الحرمان من أجر الأعمال الصالحات وإن كثرت، معصية ترك فريضة من أعظم الفرائض وهي العمل لإقامة شرع الله بإيجاد الإمام الذي تجتمع عليه الأمة فتصير بذلك جماعةً لها إمام.
روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مَنْ خَلَعَ يَداً مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
ففي الحديث تخويف عظيم من المساس بفرض عظيم وهو اجتماع الأمة كلها على إمام في جماعة، فترك البيعة للإمام بعد عقدها واستحقاقها جريمة تجعل صاحبها لا حجة له أمام الله تنجيه يوم القيامة إلا أن يرحمه الله، والأمر بطاعة إمام وبيعته هو أمر بإيجاده ضمنا لأن الفرض المقصود إن كان يختل بمعصيته وخلع اليد من طاعته فإنه ينعدم بحال غيابه بالكلية، فمن ترك فرض إيجاد الإمام حال غيابه فمات على تلك المعصية فميتته ميتة جاهلية، كناية عن عظيم الإثم.
ومن المعاصي التي تذهب بأجر الأعمال الصالحات، خذلان المظلومين وعدم القيام بما يلزم لنصرتهم، جاء في الأثر الذي حسنه بعض المحققين: "لا يقفن أحدكم موقفاً يُقتل فيه رجل ظلماً، فإن اللعنة تنزل على من حضر حين لم يدفعوا عنه، ولا يقفن أحدكم موقفاً يُضرب فيه رجل ظلماً، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه".
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن جابر بن عبد الله وأبي طلحة بن سهل الأنصاري أنهما قالا: قال رسول الله ﷺ: «مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِماً فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِماً فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ».
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وبالنظر إلى حالنا اليوم وجب أن نحذر المسلمين جميعا من الاستهانة بترك فرائض عظيمة كإقامة دولة الإسلام الجامعة وإغاثة المسلمين الذين تسفك دماؤهم ويظلمون في أرجاء الأرض، ثم الاكتفاء بالقيام بفرائض يهون أداؤها على الجسد والمال، وإيهام النفس بأنها تحصل بذلك المراتب العليا وتزداد قرباً من الله، فهل حقا سيقبل الله منا صيامنا وقيامنا وعباداتنا وقد خذلنا دينه وشرعه ووصية نبيه بترك العمل لإقامة دولته إلا من رحم الله؟ وهل سيقبل الله منا الصيام والقيام وقد خذلنا إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان واكتفينا بالدعاء ومتابعة مشاهد القصف والتهجير والإبادة الجماعية؟
ألم يقل النبي ﷺ: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ»؟
ألم يحذر ﷺ من الذنوب التي تذهب أجر الصيام فقال: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
فأي زور أعظم من الرضا بما نحن فيه من حال، وتبرير الخذلان للمسلمين، وترك استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة؟
وأي زور أعظم من العبث بأولويات الفرائض ودرجات المحرمات، بحيث ينظِّرُ المنظرون للاشتغال بالفروع عن الأصول والاشتغال بالهين عن المصيري؟
وأي زور أعظم من تشريع الحكم بغير ما أنزل الله بفتاوى الضرورة والمرحلة والتدرج؟
فاحذر يا مسلم من أن تأتيَ يوم القيامة مفلسا لا حُجّة لك عند الله وقد كنت تظن أنك تحسن عملا، وتراكم الحسنات جبالا.
فلنعد يا أمة الإسلام إلى موازين الشرع ولنزن أعمالنا بها ولنرتب أولوياتنا عليها عسى الله أن يقبل منا ومنكم صالح الأعمال، والحمد لله رب العالمين.
بقلم: الشيخ عدنان مزيان
عضو المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رأيك في الموضوع