لقد كانت الهجرة ميلادا لأمة. فالهجرة حدث عظيم بعث أمة من خارج التاريخ لتسقط العروش وتحطم إمبراطوريات، وتسود الدنيا وتنشر الرحمة والعدل.
انطلقت الدعوة محددة غايتها مبصرة طريقها:
- دعوة عالمية ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾.
- دعوة تهيمن على الأديان وتنسخ الشرائع، وتزلزل العروش وتزيل الطغاة ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾.
- دعوة تكرهها الملوك ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾. فأي أمة لا تعرف رسالتها ولا تحدد عدوها هي أمة تهوي في واد سحيق ليس له قرار.
- دعوة غايتها إقامة الخلافة، التي هي تاج الفروض.
- دولة تطبق الإسلام وتحمل رسالته بالدعوة والجهاد، تحرس الدين وتسوس الدنيا بشرع رب العالمين.
- والدولة لا تقام إلا بقوة.
- والقوة قوة ذاتية تؤخذ بطلب النصرة من أهل القوة والمنعة "ببيعة من أهل الحل والعقد".
- وطلب النصرة فعل تواتر عن رسول الله ﷺ، كرره رغم الأذى، فهو أمر إلهي وفرض تبذل الدماء من أجله رخيصة.
- لقد تمت البيعة على قتال الأحمر والأسود من الناس.
فأيقنت قريش أن البيعة إعلان بقيام الدولة، وقيام الدولة يعني زوال ملك قريش وذهاب سؤددها، كما أيقن هرقل عندما وصلته رسالة رسول الله ﷺ بأنه سيملك ما تحت قدميه. فقررت قريش قتله، وجعلت لمن يقتله جائزة عظيمة.
بدأت الهجرة:
- فانطلق ركب رسول الله ﷺ متوجها إلى المدينة فلحق به سراقة لعله ينال جائزة قريش، فقال له رسول الله ﷺ ارجع سراقة ولك سوارا كسرى، وهذا يعني أنه سيقيم دولة تزيل ملك كسرى وسيهبه سواريه.
- حط رحال رسول الله ﷺ في المدينة فأعلن إقامة الدولة ووضع دستورها، ونظم علاقاتها، بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين من ساكنهم من أهل الذمة، وعلاقاتهم مع غيرهم من الأمم.
- بإقامة الدولة انقسم العالم إلى معسكرين ودارين لا ثالث لهما؛ دار إسلام ودار كفر وحرب؛ دار إسلام السلطان فيها للأمة والسيادة لله، وشرعه هو المتحكم في علاقاتها الداخلية والخارجية. ودار كفر وحرب، السيادة فيها للطاغوت والتشريع للبشر.
إن وصف دار الإسلام ودار الكفر ليس وصفا للناس، وإنما هو وصف للنظام المتحكم، فقد كانت مكة دار كفر وفيها رسول الله وصحبه الكرام، وأصبحت المدينة بالهجرة دار إسلام وفيها وثنيون ويهود.
لم تكن الهجرة فرارا لحفظ الحياة، ولم تكن لجوءا ولا نزوحا ولا طلبا للرزق، وتحسينا للدخل. لقد كانت من أجل أمر عظيم، دولة بعثت أمة من خارج التاريخ، لتكتب هي التاريخ، وتكون خير أمة أخرجت للناس. فليس صدفة أن يجعل الصحابة الهجرة بداية تاريخ أمة عظيمة؛ فالهجرة هي الحدث السياسي الأبرز في تاريخ الإسلام والمسلمين على الإطلاق، لم يكن قبلها للمسلمين دولة ولا كيان ولا تاريخ.
ولا يقوم الإسلام ولا تطبق أحكامه بدون دولة، وإلا ظل أفكارا في بطون الكتب وفي رؤوس الفقهاء بلا واقع. فالإسلام ليس ديناً كهنوتياً، ولا فكرة جميلة في بطون الكتب تزين المكاتب، وتدغدغ المشاعر، بل الإسلام دين منه الدولة، وطراز من العيش متميز، مبدأ وله طريقته، وطريقته هي دولته التي أقامها رسول الله ﷺ، فجسدت طراز عيش ومنهاج حياة.
لقد ألزمنا ﷺ بعدم الخروج على نظامها، فقال: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ بَعْدِي خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ، فَفُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، وَاسْأَلُوا اللهَ الَّذِي لَكُمْ، فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ».
لقد استمرت الدولة وحافظ عليها المسلمون من عهد أبي بكر إلى عهد آخر خليفةٍ عثمانيّ.
هدمت الدولة التي أقامها رسول الله ﷺ بأيدي الكفار وخونة العرب والترك، وعطل شرع الله، وأصبح المسلمون يُحكمون بأنظمة الكفر، وتحقق فيهم قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ...﴾.
لقد ضاقت علينا الدنيا واجتمع علينا الكفر كله اجتماع الأكلة على قصعتها، في حرب كونية وحشية بلا خُلق ولا دين. ولا مخرج إلا بخلافة هي سبب عزتنا، تحكم شرع ربنا، بها سدنا الدنيا، وفتحنا البلاد، ونشرنا الدين فعمت الرحمة. بها نستعيد أراضينا من مغتصبيها، فنطرد الخونة وعملاء الغرب وأعوانه، الذين نقضوا العهد وخانوا الأمانة وضيعوا الأمة، بها نطرد الغزاة المحتلين، والكفار المحاربين، ونرجع أعزة بهذا الدين.
فيا أهل القوة والمنعة، ويا ضباطنا وعساكرنا، ألا تتوقون ليوم كيوم الهجرة، يوم يعز الله بكم دينه ويقهر عدوه، فيذكركم الله في أوليائه ويذكركم الزمان في عليائه؟! فكونوا أنصار الله، وانصروا دينكم وأمتكم، فلا تكونوا أنتم والأعداء عليها.
إن الهجرة ليست ذكرى تسلية، بل هي ذكرى حدث عظيم، وتذكير بفرض هو تاج الفروص، كلُّنا محاسب عليه.
أيها المسلمون: إنه مما يجب إدراكه في ذكرى الهجرة، أن على المسلمين أن يقتدوا بنبيهم ﷺ، وأن يقيموا دولة الإسلام كما أقامها، واثقين بوعد الله سبحانه ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ...﴾، ومستبشرين ببشرى رسول الله ﷺ «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ». اللهم اجعلنا من جنودها وشهودها والعاملين المخلصين لها.
بقلم: الشيخ سعيد رضوان
رأيك في الموضوع