إن لكل أمر عظيم سرا يكمن في ثناياه وخفاياه، وهذا السر هو الذي يجعل الأمر حيا وقويا، كالروح في الجسد، فإنها سر حياته وقوته ونشاطه، فإذا نزعت صار الجسد جثة هامدة تنتظر الدفن والتخلص منها. والأمة الإسلامية مليئة بالأسرار التي تجعلها أمة حية بل خير أمة أخرجت للناس، ومن هذه الأسرار وأعظمها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ﷺ، روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي ﷺ قال: «تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ». ورواه الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللهِ». ومن هذه الأسرار ما أنبأنا الله عز وجل عنه في كتابه الكريم: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾، وجعل هذه الأسرار مصادر قوة وحيوية للأمة الإسلامية ما دامت محافظة عليها، فرغبنا في القيام بمقتضياتها، وحذرنا من التفريط فيها أو التقصير في أداء استحقاقاتها، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾. يقول الإمام الطبري: "ينهون أهل المعاصي عن معاصيهم، وأهل الكفر بالله عن كفرهم به، في أرضه".
وكذلك فإن الله عز وجل قد بين لنا سبب لعن الذين كفروا من بني إسرائيل بأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾. وهنا يتجلى سر من الأسرار عظيم وهو النهي عن المنكر، وهو السر الذي شدد عليه النبي ﷺ فيما رواه أبو داود والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: « إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ»، ثُمَّ قَالَ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ إلى قوله ﴿فَاسِقُونَ﴾، ثُمَّ قَالَ: «كَلَّا وَاللهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْراً وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْراً». والملاحظ هنا أن أهم أعمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد انصبت على الظالم، ولا أظلم من الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله، قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
بل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سر استجابة الدعاء، والحبل الموصل له بين الداعي وبين الله عز وجل، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَاباً مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ». وعن أبي هريرة بلفظ: «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ». وشدد النبي ﷺ على أن السر الكامن في النهي عن المنكر هو من أهم تلكم الأسرار، وجعله عاما في كل مسلم، وذلك فيما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ». فلم يترك هذا الحديث مجالا لأحد أن يتجاهل المنكر إذا رآه، فإن استطاع تغييره باليد فعل، وإن لم يستطع فباللسان، فإن لم يستطع فبالقلب على أن تظهر عليه علامات الإنكار.
نخلص إلى القول بأن إنكار المنكر هو من أعظم أسرار قوة المسلمين، فبه يبقى الشرع ظاهرا، والحكم بما أنزل الله قائما، وهيبة الأمة الإسلامية محفوظة بين الأمم، وبه يقمع المنكر في مهده، وتنقى أجواء المسلمين من أدران المنكرات، وتصفو الحياة في طاعة الله، ويحمل دين الله إلى العالم أجمع عن طريق الجهاد في سبيل الله.
رأيك في الموضوع