إن إهمال الدول التي تتبنى النظام الرأسمالي العلماني الجائر هو ظاهر للعيان، وبخاصة في هذه الدويلات القائمة في بلاد المسلمين والسودان جزء منها، فهذه الدويلات لا تولي اهتماما بما عليه حال الناس بل وتبخس ما يقدمونه بكل تفان، ومن هذه الشرائح شريحة المعلمين الذين يعانون كغيرهم من الناس، بل بلغ ظلم الدولة بهم مبلغا عظيماً. فقد أورد موقع سودان برس في 28/12/2022م خبرا بعنوان: "استمرار إضراب المعلمين وشلل كامل يضرب المدارس"، جاء فيه: "نفذت لجنة المعلمين السودانيين، أمس إغلاقاً شاملاً للمدارس الحكومية، حتى نهاية الأسبوع احتجاجاً على ضعف رواتبهم الشهرية. ويُعد هذا الإغلاق هو الثالث من نوعه في كانون الأول/ديسمبر الجاري، ويأتي في سياق حملة تصعيد تقودها لجنة المعلمين شمل إضراباً عن العمل وتنظيم مواكب جماهيرية. وقال المتحدث باسم اللجنة سامي الباقر لسودان تربيون، "إنهم نفذوا إغلاقاً يستمر حتى الخميس، وهو يعني تعطيل الجدول المدرسي من أجل تحسين البيئة التعليمية". واقترح معلمو المرحلة الثانوية بولاية كسلا تأجيل امتحانات الفترة الدراسية الأولى احتجاجاً على تجاهل الحكومة مطالب زيادة الأجور".
وأيضاً أورد موقع الجزيرة نت تقريرا في 27/12/2022 جاء فيه: "لا يجد آلاف المعلمين في السودان خيارا سوى الدخول في إضراب عن العمل لإجبار السلطة الحاكمة على تحسين رواتبهم التي يقولون إنها لم تعد تكفي أبسط الاحتياجات المعيشية. فمنذ منتصف تشرين الأول/أكتوبر الماضي شرع معلمو المدارس الحكومية بأنحاء البلاد في تحركات منظمة بدأت بتسليم السلطات، ممثلة في وزارة المالية ووزارة التربية والتعليم ومجلس الوزراء، مذكرة متضمنة 8 مطالب تصدرتها ضرورة زيادة الإنفاق على التعليم ليصل إلى 20% من ميزانية الدولة. ويطالب المعلمون برفع مخصصات التعليم كمدخل لحل مشكلات تتعلق بأجورهم المتدنية وكي تتمكن المدارس من استقبال عدد كبير من الطلبة الذين لا يجدون مقاعد للدراسة، وبلغ عددهم حسب تقرير منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة يونيسف 7 ملايين طفل. كما تضمنت المطالب رفع الحد الأدنى للأجور إلى 69 ألف جنيه سوداني، (121 دولارا تقريبا)".
إن الدولة في السودان لا تجعل الإنفاق على التعليم من أولوياتها ولا يهمها إن توقف العام الدراسي أو استمر فهي في وادي والناس في وادٍ آخر؛ لأنها دولة كباقي الدول الرأسمالية التي يوصي منظروها بتقليل الصرف على مثل هذه الأمور كالتعليم والصحة والأمن، فهي عندهم ليست من واجبات الدولة وكل فرد مسؤول عن نفسه، وحتى ما نراه من هذا الإنفاق على قِلّته فهو من قبيل ترقيع النظام الرأسمالي لأنه لو طبق كما هو لخرج الملايين إلى الشوارع مطالبين بإسقاط الأنظمة التي تتبناها، وما كانت تستمر في حكم الناس ولو شهرا واحدا، والمنظومة الرأسمالية في عرفها رفع يد الدولة عن كل الحاجات الأساسية ومنها التعليم، وعمل الدولة فيها ليس رعاية شؤون الناس، ولهذا كان من الطبيعي أن يضرب المعلمون أو غيرهم، فهي لا تولي اهتماما بحالهم.
والحقيقة أن الدولة الإسلامية لم تغفل يوماً دورها المحوري في مجال الاهتمام بالعلم، بل ربما كان هو الدور الغالب عليها، حتى إنك لتجد المدارس، والمعاهد العليا، والمكتبات العامة، وكذلك الخاصة، وقد ازدانت بها مدن العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وفي ذلك يذكر التاريخ بكثير من الإكبار والإعجاب، جمّاً غفيراً من خلفاء المسلمين وأمرائهم، الذين كان لهم دورٌ كبير في رعاية العلماء وطلاّب العلم.
ويأتي في مقدمة هؤلاء الخلفاء، الخليفة العباسي هارون الرشيد، الذي قال عنه عبد الله بن المبارك وهو قاضي حلوان في العراق، ومن حفاظ الحديث الثقات: "ما رأيتُ عالماً، ولا قارئاً للقرآن، ولا سابقاً للخيرات، ولا حافظاً للحرمات في أيام بعد أيام رسول الله وأيام الخلفاء الراشدين والصحابة، أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثماني سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعِلم، ويروي الحديث، ويجمع الدواوين، ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة، ولم يكن ذلك إلا بكثرة إنفاقه، واهتمامه بالعلم والعلماء وطلابه منذ الصغر".
وكان للدولة الدور البارز أيضاً في الاهتمام بأبنائها العلماء ورعايتهم بما يليق ومكانتهم، فكانت أولاً توفر لهم من المرتبات ما يكفي لمعيشتهم عيشة هانئة، هذا عدا ما كان يُعطَون من رواتب أخرى كحاجات معاشية، فقد "كان الشيخ نجم الدين الخبوشاني، ممن عيَّنه السلطان صلاح الدين ليدرِّس في مدرسته الصلاحية، وقد جعل له كل شهر أربعين ديناراً عن التدريس، وعشرة دنانير للإشراف على أوقاف المدرسة، وستين رطلاً مصريّاً من الخبز كل يوم، وراويتين من ماء النيل كل يوم. (السيوطي: حسن المحاضرة 2/57). "وكان من رواتب شيوخ الأزهر الشهرية، راتب يأخذه الشيخ لنفقات بغلته، إذْ كان من أوقاف الأزهر وقف خاص لبغلة الشيخ ونفقاتها". (مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص102).
وقد اشتهر أمر الجوائز العظيمة والهبات الجزيلة التي كان يمنحها الخلفاء والحكام للعلماء بهدف التشجيع على تحصيل العلوم، وكانت هذه الجوائز في صورة أقرب إلى الخيال، وكان من ذلك "إعطاء وزن الكتاب المترجَم من لغة غير العربية إلى اللغة العربية ذهباً للعالِم الذي يقوم بترجمته". (ابن صاعد الأندلسي: طبقات الأمم ص48، 49). وقد كان من جرَّاء ذلك أن نشطت حركة الترجمة، ونُقِلَت علوم هائلة على إثرها إلى المسلمين.
وأروع من ذلك ما قامت به الخلافة العثمانية، وذلك حين نجحت في تجميع النابغين من جميع القرى والأمصار، ووفرت لهم الرعاية التي جعلت كل نابغة يعطي ما عنده من فنٍّ وعلم؛ وهو الأمر الذي ساعد على ازدهار الدولة حضاريّاً وعسكريّاً. ولم يكن اهتمام الدولة يقتصر على رعاية العلماء من أبنائها، بل كان الحكام يستدعون العلماء من شتى الأمصار ليستفيدوا من علومهم، ويسعدوا برعايتهم، فها هو "الأمير المعزّ بن باديس، أحد أمراء دولة الصنهاجيين في المغرب الإسلامي، كان لا يسمع بعالم جليل إلا أحضره عنده، بل وجعله من خاصَّته، وبالغ في إكرامه، وعوَّل على آرائه، ومنحه أسمى الرُّتب". (ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب).
نعم هذه هي مكانة المعلمين في ظل الخلافة، ولن يظفر المعلمون أو غيرهم بمثل هذا الاهتمام إلا في ظلها، وهي وحدها التي تقدر مثل هذه الجهود المبذولة ولا تحوج أحدا منهم بل توفر لهم كل المعينات حتى يتفرغوا لهذه المهمة الجليلة وتخريج أجيال وأجيال تكون لهم بصمة واضحة في معترك الحياة.
بقلم: الأستاذ عبد الخالق عبدون علي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع