نطلق هذه الصرخة من المسجد الأقصى المبارك، لعلها تلامس آذانا صاغية وقلوبا مفتوحة مخلصة من أهل القوة والمنعة من جيوش المسلمين، فيتحركوا من فورهم هذا لإنقاذ المسلمين في فلسطين والمسجد الأقصى الأسير من مرارة الأسر، وتسلط الظالمين، وموالاة الحكام في السلطة للغاصبين. صرخة نطلقها من رحم المعاناة من وطأة الاحتلال والفقر والذل والمهانة، حيث التقارب الشديد على المستوى السياسي بين الحكام والأعداء والتنسيق الأمني المقدس، في مقابلة التباعد الكبير بينهم وبين أهل فلسطين! نصرخ بصوت مرتفع من الاعتداءات على الناس الآمنين العزل، والقطع المستمر للطرقات، والاعتقالات والضرائب والمخالفات وهدم البيوت، وأمور بين ذلك كثيرة. وتلك هي طبيعة الحياة؛ أن يشكو المستضعفون ويستنصروا الأقوياء، وهكذا فعل النبي ﷺ عندما قال: «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى بِعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ». وطلب النصرة من أهل القوة والمنعة مرارا وتكرارا حتى قيض الله له النفر اليثربيين، فالتحمت دعوته مع منَعَتهم وقامت الدولة الإسلامية الأولى، وانتهت بذلك مرحلة الاستضعاف وبدأت مرحلة الاستخلاف، وكان للصرخات التي أطلقها مناشدا ربه، ومستنصرا بالأقوياء من القادة والزعماء، صدى إيجابي مثمر.
أما الموالاة، فلم تحظَ مسألة في الفقة الإسلامي بالاهتمام والوضوح وشدة الحرمة بمثل ما حظيت به مسألة موالاة الأعداء والتحالف معهم، وخصوصا من المستوى السياسي الحاكم، إذ أخذت مساحة كبيرة من أبواب الفقه السياسي، ونالت قسطاً واسعاً من التوافق في المذاهب الإسلامية المختلفة، فصارت حرمة موالاة الأعداء مما هو معلوم من الدين بالضرورة. ومع هذا كله، فإننا ما زلنا نجد في هذا العصر - وخصوصا في فلسطين - من يتلاعب في وصف واقع العدو، ويلوي أعناق النصوص ذات الصلة، واستبدلوا بها المصالح كما قدَّرتها عقولهم القاصرة، وتبنوا مقولة: (لا يوجد أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون، ولكن توجد مصالح دائمة)! فاختلط بذلك أمر العدو على المسلمين، وسحر الإعلام الفاسد أعينهم، فصور لهم العدو صديقا، والصديق عدوا!
وأما الأعداء فهم الكفار، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ﴾. فأعداء الله وأعداء الأمة هم الذين كفروا بالإسلام، ولا بد أن تكون حالة العداء معهم دائمية، ويكون الأعداء دوما في مرمى النار والمواجهة والتحدي، فلا توجد استراحات في هذه الحالة العدائية، لأن الكافر مسيّر من الشيطان، والمسلم مسيّر من الرحمن، وصراع الإنسان مع الشيطان مستمر إلى يوم القيامة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً﴾. وأما الكافر المعاهد، أو الذمي، أو المستأمن، فهذه حالات مستثناة من الأصل، فإذا زالت رجع حكم الأصل. وأما بالنسبة لموالاتهم، فالنصوص تحرم على المسلمين موالاة الكفار، بجميع معاني الموالاة التي دلت عليها اللغة العربية، والتي من أهمها: النصرة، والمعاونة، والمشاورة، والمحبة، والنصيحة، والمصادقة، والركون، والخضوع، والاستسلام، وما شاكلها أو ماثلها من معانٍ. فحكمها الشرعي الحرمة القطعية. فلا يجوز لمسلم أن ينصر الكافر، أو يعاونه، أو يشاوره، أو يحبه، أو ينصحه، أو يصادقه، أو يركن إليه، أو يخضع له، أو يستسلم لسلطانه برضاه، أو ينسق معه أمنيا، أو عسكريا، أو اجتماعيا، أو سياسيا، أو اقتصاديا، أو ثقافيا، أو علميا، أو يهنئه بأعياده الدينية، أو غير ذلك، وإلا كان موالياً له، وينطبق عليه حكم الموالاة! إلا في حالة التقية؛ لقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾، وهي حالة الاستضعاف المتعلقة بالأفراد المسلمين الذين يخضعون لحكم الكافرين، ويتعرضون لأنواع الأذى الحقيقي على النفس أو المال أو العرض. وأما ما سوى هذه الحالة فلا يجوز إطلاقاً أن يوالي المسلم الكافر ولا بصورة من الصور. وقد ثبت لدينا أنه لما اضطربت مفاهيم العدو والولاء، هدمت دولة الخلافة العثمانية، وقسمت بلاد المسلمين، وضاعت فلسطين وكشمير، ولحق المسلمين ذل وفقر وجهل ومصائب لم يشهد لها التاريخ مثيلا.
هذا وقد دحض الله سبحانه ذرائع المسلم ضعيف الإيمان الذي يوالي الكفار بدافع التقوّي بهم، أو استمداد العزة منهم، أو غير ذلك، فقال تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾. وأكَّد سبحانه وتعالى أن المسلمين الذين يوالونهم إنما يجعلون لله عليهم سلطاناً مبيناً، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً﴾. ثم بعد أن وصفهم الله سبحانه بالمنافقين، أضاف وصفاً آخر لهم وهو أنهم ليسوا من المسلمين ولا من الكافرين، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾. ثم يقول تعالى بكلمات صريحة لا تحتمل التأويل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾. وكفى بهذه الآية دليلا على بطلان ما قامت به السلطة الفلسطينية وبعض حكام المسلمين من اعتراف وتطبيع مع كيان يهود الغاصب للأرض المباركة فلسطين.
إن موالاة الكفار سبب كل بلاء، ومصدر كل شر، وأصل كل داء. وأخطار الموالاة تكمن في اختراق الكفار لجبهات المسلمين، وانظروا إلى علاقة إيران بأمريكا على سبيل المثال لا الحصر، فلو كانت إيران مستقلة في قرارها السياسي الإسلامي بخصوص الملف النووي، لما كانت لها علاقات مع وكالة الطاقة الدولية ولما والت أمريكا، أو الاتحاد الأوروبي، ولما دخلت في أنفاق السياسة المظلمة كما دخلت الفصائل السورية من قبل، فهلكت لما والت. وأما رجال سلطة فلسطين فقد ذهبوا إلى أبعد من الموالاة المعروفة، فبعد الاعتراف بسيادة أعدائهم على أراضيهم، انتقلوا إلى التطبيع والتنسيق الأمني معهم، وتنكروا للمسلمين وأقبلوا على الكافرين الغاصبين! قيل لعمر رضي الله عنه إن ها هنا رجلاً من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه، ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عندك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين، وقال لأبي موسى الأشعري: لا تُدْنِهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خونهم الله. قال القرطبي: إذا كان هذا في اتخاذ كاتب، فكيف باتخاذ الكفار مستشارين وأمناء وأصدقاء وحلفاء؟!
وختاما فإنا نقول للمسلمين جميعا: إن أردتم نصرتنا، وقررتم الاستجابة لصرختنا، فما عليكم إلا أن تتلبسوا بالعمل مع العاملين الجادين لإعزاز هذا الدين وإقامة دولة خلافة المسلمين الثانية الراشدة على منهاج النبوة، كما استجاب الخزرجيون لصرخات النبي ﷺ، وعملوا انقلابا جذريا في يثرب التي أصبحت المدينة المنورة. فنريد منكم أن تقوموا بانقلاب جذري يشبه ذاك الانقلاب المبارك، فتفوزوا بسعادة الدارين. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
رأيك في الموضوع