تحدثنا في الحلقة السابقة عن مرحلة صعبة في تاريخ أمة الإسلام؛ وهي مرحلة الغزو الصليبي لبلاد المسلمين، وخاصة أرض الشام، واغتصاب المسجد الأقصى المبارك؛ لأكثر من تسعين عاما متتالية، لم يُرفع فيه أذان، ولم تقمْ فيه صلاة. ومُنع المسلمون من شد الرحال إليه من كل أقطار الأرض؛ فتعطل هذا الحكم طوال هذه المدة السوداء المظلمة من تاريخ هذا المسجد. وسنقف في هذه الحلقة عند أهم الدروس والعبر في هذه المرحلة المهمة في تاريخ أمة الإسلام بشكل عام، ومن تاريخ المسجد الأقصى المبارك على وجه الخصوص؛ لأن أحداث التاريخ فيها عبرة كبيرة للأجيال القادمة على مر التاريخ، وخاصة أننا نعيش مرحلة اغتصاب جديدة من إخوان القردة والخنازير؛ ربائب الصليبيين وخدمهم في حرب الإسلام، وهي امتداد لتلك الحقبة السوداء من الغزو الصليبي.
العبرة الأولى: إن أطماع الكفار غربيين وشرقيين، والمكر بهذا المسجد المبارك؛ لم تتوقف على مر التاريخ وحتى يومنا هذا، وخاصة في فترة الحروب الصليبية؛ فقد جرت وحدثت حملات مقصودة ومتكررة ومتعاقبة على هذا المسجد المبارك وأرضه المباركة، قد بلغت تسع حملات متتابعة عبر قرنين من الزمان؛ والسبب هو أن هذه الأرض وهذا المسجد جزء من عقيدة هذه الأمة، وهذا الأمر من باب الكيد للإسلام ومشاعره وشعائره، فعندما اغتصب الصليبيون المسجد الأقصى عملوا على تخريبه، ومنع الصلاة فيه مع أن المسلمين لم يمنعوا أحدا من النصارى من أداء العبادة في الكنائس والبيع؛ وذلك تنفيذا للعهد الذي كتبه الخليفة العادل عمر رضي الله عنه في العهدة العمرية. وفي هذا درس لأمة الإسلام إلى يوم القيامة بأن المسجد الأقصى لا ينتهي كيد النصارى به عبر المنظومات الدولية والتحالفات، ومعاهدات ما يسمى بالسلام.
العبرة الثانية: لقد كان الشوق للأقصى تنفيذا لوصية رسول الله ﷺ، هو المحرك والدافع لفتحه في عهد الصحابة الأبرار. وكان حب الأقصى وواجب تحريره انطلاقا من عقيدة الأمة تجاهه هو الدافع والمحرك لوحدتها، والعمل المتواصل الدؤوب بعد ذلك لتحريره من براثن الكفر. حيث إن الجهاد لم يهدأ طوال المدة التي اغتصب فيها الأقصى وتُوج أخيرا بتحريره بعد معركة حطين الفاصلة في سهل فلسطين. ويجب أن يكون الدافع اليوم كذلك لتحريره هو دافع العقيدة والإيمان وليس دافعا قوميا أو وطنيا أو شعوبيا؛ فكل ذلك فشل فشلا ذريعا. ولا يحرر الأقصى إلا رجال عاهدوا الله على الصدق والإخلاص لله، كأمثال نور الدين آل زنكي والظاهر بيبرس وصلاح الدين الأيوبي.
العبرة الثالثة: طبيعة أمة الإسلام وصفاتها؛ بأنها أمة طيبة الأصل كريمة المعدن، أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾. وقد كان للعلماء الأثر الكبير والطيب في عودة هذه الأمة وحدة واحدة في دولة واحدة تحت قيادة واحدة؛ حيث اتحدت الأمة بداية في عهد آل زنكي، والفضل كان للعلماء الأتقياء من الذين عملوا عملا دؤوبا في حث الأمة والقادة على تحرير المقدسات والبلاد والعباد. قال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلَا دِرْهَماً، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَه أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» ابن حبان في صحيحه. وقد قرب القادة العظام أمثال نور الدين آل زنكي وصلاح الدين الأيوبي أمثال هؤلاء العلماء طوال فترة الجهاد؛ وكانوا على رأس الجيش حيث حل أو ارتحل. وفي هذا درس بليغ للعلماء اليوم وخاصة أن المسجد الأقصى قد فرط فيه وتآمر عليه حكام المسلمين؛ تماما كما فرط فيه بعض الحكام في العهد الصليبي. درس للعلماء لتوحيد الأمة مرة أخرى كمقدمة لإعادة عزة الأمة وتحرير مقدساتها.
العبرة الرابعة: أنه لا عهد للكفار ولا أمان على مدار التاريخ؛ وهذا ما أخبر به قرآننا وسنة رسولنا عليه الصلاة والسلام؛ قال تعالى: ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ يقول الإمام البغوي في تفسيره: (إن عداوة المشركين هي عداوة عامة شاملة لكل مؤمن؛ أي: أن هؤلاء المشركين لا يراعون في أمر مؤمن يقدرون على الفتك به عهدا يحرم الغدر، ولا قرابة تقتضي الود، ولا ذمة توجب الوفاء). فقد نقضوا العهد مع أمة الإسلام عبر التاريخ؛ الصليبيون في الرها ومعرة النعمان والقدس؛ والمغول في بخارى وسمرقند، حيث أعملوا سيف الغدر بالمسلمين، وكذلك اليوم لم يرعوْا للمسلمين عهدا ولا وعدا؛ خاصة إخوان القردة والخنازير عبر كل المواثيق الدولية التي وقعوها. وفي هذا درس للمسلمين أن لا يأمنوا على دينهم ودمائهم وأعراضهم من هؤلاء الكفار؛ فالله عز وجل أصدق قيلا من كل المواثيق الدولية، وأن يتخذوا معهم إجراء الحرب والقتال لتحرير ما اغتصبوه من أرض الإسلام. قال تعالى: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾.
العبرة الخامسة: الكفار تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، ويجتمعون في حرب أمة الإسلام. وقد برز هذا في أعمال النصارى عندما عزموا على محاربة أمة الإسلام؛ حيث اجتمعت الكنيسة الشرقية (القسطنطينية) مع الغربية (روما)، واتحدت رغم السنوات الطويلة من الحرب والعداء، واتحدت ممالك أوروبا رغم الحقبة الطويلة من الاقتتال فيما بينهم. وفي هذا درس لأمة الإسلام على مدار التاريخ أن اليهود والنصارى رغم عداوتهم الشديدة فيما بينهم فإنهم وحدة واحدة في حرب أمة الإسلام، وأن أمريكا ودول أوروبا رغم عداوتها وتنافرها فإنها كذلك حرب على أمة الإسلام. فلا فرق بين الكفر جميعا في حربه وشره تجاه الإسلام والمسلمين.
هذه أبرز العبر من فترة الحروب الصليبية تجاه أمة الإسلام، والمسجد الأقصى المبارك. والحقيقة أن الأطماع الصليبية على أمة الإسلام والمسجد الأقصى لم تنته، وهي تتجدد هذه الأيام برأسين لعدو واحد هو الصليبية الجديدة، ووليدتها من رحمها الصهيونية العالمية. وسنتحدث في الحلقة القادمة عن تجدّد هذه الحملات في العصر الحديث، تحت أسماء ومسميات جديدة في ظل المنظومة الدولية الشريرة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
سنتحدث عن الزاوية الخامسة بإذن الله وهي: المؤامرات الغربية والصهيونية على فلسطين بعد الخلافة، وفي عهد الانتداب البريطاني.
رأيك في الموضوع