منذ أن بعث الله محمدا ﷺ، وانقسم الناس إلى مصدق ومكذب، إلى مؤمن وكافر، خاض الإسلام صراعا عقائديا وجوديا مع كل العقائد والمبادئ لم ينقطع إلى يومنا هذا.
وفي القرن الفائت تمكن الغرب الكافر من إسقاط دولة الخلافة فغاب الإسلام من الموقف الدولي ومن الحياة، وأصبح مجرد سلوك فردي ودينا كهنوتيا لا أثر له في الحياة.
إلا أن الكافر يدرك تمام الإدراك بأن غياب الإسلام هو أمر آني مؤقت، لصدق عقيدته وموافقتها للفطرة ولرقي تشريعه، وأن الله تكفل بحفظه، ووعد عباده بالاستخلاف والتمكين.
وعندما قامت حركات إسلامية تعلن العمل لتطبيق الإسلام تحرك الرعب في نفوسهم من عودة الخلافة التي ستحكم الإسلام في علاقاتها الداخلية والخارجية، وتوحد المسلمين، وتقطع دابر المستعمرين وتلاحقهم في عقر دارهم.
وما نشهده من حرب شعواء وحشية مدمرة على بلاد المسلمين لهو خير دليل.
وإن أخطر جبهات الحرب على الإسلام هي جبهة الحرب الفكرية الإعلامية لتشويه صورة الإسلام، ولإحباط المسلمين وجعلهم يتقبلون تطبيق أحكام الكفر عليهم، ولإقعادهم عن العمل لإقامة دولة الإسلام، بل ليحكموا هم أنفسهم بالكفر.
فتم تجنيد رجال تاجروا بدينهم ليكونوا قادة حرب الكلمة على الإسلام، فأولوا النصوص وحمّلوها ما لم تحتمل، وكذبوا على العلماء وحمّلوا أقوالهم ما لم يقولوه، وجاءوا بقواعد فقهية بقصد التلبيس على المسلمين، منها: (الضرورات تبيح المحظورات)، و(أهون الشرين وأقل الضررين)، و(درء المفاسد) و(قاعدة المصالح) والقاعدة التي نحن بصددها "ما لا يدرك كله لا يترك جله" ليقولوا للمطالبين بتحكيم شرع الله رويدكم! لا بد من التدرج في التطبيق فلا يمكن تطبيق الإسلام دفعة واحدة!
ولتجلية المسألة وبيان عظم وزرها وخطورتها نذكر بالمسائل التالية:
* إن الله أكمل لنا الدين وأتم علينا نعمه فأنزل القرآن تبيانا لكل شيء، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾. وقال جل من قائل: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ فما من فعل يكون إلى قيام الساعة إلا فيه في كتاب الله ووحيه لنبيه بيان حكمه، ومنه أخذت القاعدة (الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي).
* لقد عرف الفقه بإجماع بأنه "علم بالمسائل الشرعية العملية المستنبطة من الأدلة التفصيلية"، فالأدلة على الأحكام الفرعية هي الأدلة التفصيلية وليست الإجمالية، فلا يقال المسألة دليلها القرآن أو السنة أو القاعدة، بل يجب إيراد الآية أو الحديث، لنقف على قوة الدليل ووجه الاستدلال به على المسألة.
* لقد كان الصحابة الكرام والتابعون يستنبطون الأحكام من النصوص مباشرة بما كانوا يتمتعون به من فصاحة اللسان ومعرفة بالتنزيل وبمناسبات نزول الوحي ومعرفة بالحديث دون الحاجة لتقعيد القواعد، وهذا هو الأصل، ولكن عندما فسد اللسان وبَعُد الناس عن زمن التنزيل، اختلفت الأفهام وظهرت الحاجة لوضع قواعد تضبط اللسان والفهم والاجتهاد، فكانت القواعد اجتهادا لواضعها وليست هي الحجة، وإنما الحجة في لسان الأقحاح وفي الوحي ممثلا في النصوص التي استنبطت منه القواعد.
* عند تعارض النص مع القاعدة تُرَدّ القاعدة ويُعمل بالنص، فلا يقف اجتهاد أمام قول الله ورسوله.
* لقد وضعت القواعد لضبط سير الفقيه في الاجتهاد، منها ما هو قطعي ومنها ما هو ظني، ومنها ما هو مدسوس ليس له أصل من الوحي والشرع.
وعلى ضوء ما سبق ننظر في شبهة تجزئة الحكم بالإسلام، وفي قاعدة (ما لا يؤخذ كله لا يترك جله) التي لها صيغ أخرى منها (لا يسقط الميسر بالمعسور)، (ما لا يدرك كله لا يترك ما تيسر منه).
ومن الأمثلة عليها إذا لم نتمكن من ستر العورة كلها لسبب ما، فلنستر ما تيسر لنا من سترها، ومثال آخر لقد أُمرنا بالصلاة تامة من التكبير إلى التسليم، فإذا عجزنا عن القيام صلينا جلوسا، فلا يسقط الكل الميسر بسقوط الجزء مع العجز، وهكذا.
وهذه القاعدة يؤخذ عليها الآتي:
- أنها ليست مطردة فلا تنطبق على كل الأحكام، فمن عجز عن صيام اليوم كاملا لا يقال يلزمك صيام جزء من اليوم الذي تقدر عليه، بل يتحول إلى البديل الشرعي الآخر، ومن ملك جزءاً من الرقبة وكان له شريك فيها لا يقال له أعتق جزءاً من الرقبة، بل تحول إلى بديل.
- لقد أخذت القاعدة من قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ وقوله ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» فجعل الاستطاعة في ما طلب القيام به ولم يقرنها فيما نهى عنه، فلا تنطبق القاعدة على الفعل المنهي عنه والحرام، لأن النهي ترك للفعل وليس قياما بفعل بعكس القيام بالفعل يلزمه قدرة على القيام به.
- إن حمل القاعدة على فعل الحرام وترك الواجب هو كذب على الفقهاء بتحميلها معنى غير الذي أرادوه، كما فعلوا بقواعد أخرى، فأما مالك فأراد بالعرف عرف المدينة في زمانه زمن الصحابة والتابعين وهو نوع من الإجماع، وليس عرف الشعوب في كل زمان، والشاطبي قسم المصالح إلى ثلاث:
1- مصالح معتبرة، وهي كل مصلحة اعتبرها الشرع وأمر بها.
2- مصالح ملغاة، وهي كل مصلحة ألغاها الشرع وحرمها.
3- مصالح مرسلة، وهي كل مصلحة لم يعتبرها الشرع ولم يلغها، فلم يأمر بها ولم ينه عنها، وضرب مثلا لها جمع القرآن، فلم يأمر بالجمع ولم ينه عنه، ولم يقل إنها تسقط ما أوجب الله وتستبيح ما حرم الله.
- قاعدة الضرورات تبيح المحظورات فهي فاسدة المبنى والمعنى، فلفظ الضرورات من ألفاظ العموم ولفظ المحرمات كذلك من ألفاظ العموم، فإذا كانت كل الضرورات تبيح كل المحرمات، فماذا يبقى من دين؟!
* إن تحميل أقوال الفقهاء معاني لم يقصدوها هو كذب عليهم وتدليس، لا يفعله إلا من لا خلاق له.
وكيف تنسخ أقوال الرجال قول الله؟ وكيف يعلو قول الفقيه على قول الله؟
- إن القواعد اجتهاد لفقهاء جاءوا بعد انقطاع الوحي ولا ينسخ قول الوحي إلا بوحي.
- إذا وقع النسخ لحكم ما فلا يجوز العمل بالمنسوخ قولا واحدا، فإذا جاء الشرع وحرم الخمر فنسخ حكم الإباحة فكيف يعمل بالمنسوخ فيستباح ما حرم الله؟
* إن قاعدة (ما لا يدرك كله لا يترك جله) لا تنطبق على تجزئة الحكم بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد.
- ثم إن القاعدة جاءت في حق عجز الفرد وليست في حق الحاكم الذي لا يوجد ما يمنعه من تطبيق الشرع، وإن كان عاجزا فالحكم يوجب عزله ولا يقال بتعطيل الشرع لأجله، فلا يقاس الحاكم على الفرد.
- والقاعدة هي لحكم معين وليست للشريعة كلها.
وإذا أخذناها في جانب الأعذار تكون قد دخلت في الرخص التي جاء الشرع بدليل على العذر المحدد، والعذر لا يعلل ولا يقاس عليه، وهو حالة خاصة فلا توضع قاعدة عامة.
- إن تجزئة الأحكام تعني انتقاء أحكام للعمل بها وترك أحكام أخرى إلى أجل غير مسمى لم يحدد زمانه، ولم يحدد المعيار الذي على أساسه يتم اختيار هذه الأحكام وما أسباب ترك الأخرى، فيكون الهوى الذي قال فيه الله: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾.
- ثم إن المجتمعات لا تعرف فراغا تشريعيا، وهذا يحتم تحكيم غير شرع الله في الجوانب التي لم نأخذها من الشرع، وهذا حكم بغير ما أنزل الله، الذي وصفه الله بالكفر والظلم والفسوق، فتعددت الأوصاف والموصوف واحد، وقد تجتمع كل الأوصاف فيه، وهذا منكر عظيم وإثم كبير.
ويكفي التذكير بقول الله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾. ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾.
بقلم: الأستاذ سعيد رضوان أبو عواد (أبو عماد)
رأيك في الموضوع