لهذه الأمة العظيمة بإسلامها، المنبثقة من حدود إسلامها وفضائله لا من حدود نفسها وشهواتها؛ الخيرة برفضها لمنكر واقعها وسقيم أحوالها وفساد أوضاعها والرويبضات حكامها؛ السخية بفلذات أكبادها في سبيل نهضتها واستعادة عزها ومجدها وإعادة إسلامها العظيم إلى سدة الحكم والقيادة؛ القَيِّمَة على البشرية لإنقاذها من جحيم أهواء شياطينها...
لهذه الأمة العظيمة كان لزاما عليها أن تدرك تلك الحقيقة العارية:
أن فاجعة الدهر وقاصمة الظهر التي حلت بها منذ مائة عام عجاف، والتي تم بها ذلك الفصام النكد بين إسلامها وحياتها هي بسبب ضياع خلافتها، إذ بضياعها انتهى الأمر إلى قطيعة منكرة بين شرع الديان وشؤون عباده، فانهد البناء وخر السقف بفصل الأساس العقائدي عن تصورات وأنظمة الحياة. فكانت الجناية الكبرى التي جناها الغرب الكافر في حق الأمة أن جعل أساس حياتها عقيدة كفره وموبقة موبقاته "فصل الدين عن الحياة".
ثم أصبح دينها رهينة لدى الحكام الرويبضات يُنْسخ ويُعَدَّل ويُلَفَّق بحسب زيغهم وهواهم ووساوس شياطين الغرب بين ظهرانيهم، حتى بات كهنوتاً يتمسح به الحاكم ليخفي به عمالته وخيانته، وطقوسا للعامة جوفاء لا أثر لها في حياتهم ومعاشهم.
ثم توالدت مآسينا وتعاظمت مصائبنا وتوالت فواجعنا، وأضحت أيامنا بعدد فواجعنا لا نكاد نمسي على فاجعة حتى نصبح على أخرى، تكالبت علينا دول الكفر فأصبحنا مطمعا لكل طامع، سفكت دماؤنا ونهبت ثرواتنا وقضمت أرضنا من قلبها وأطرافها، واغتصبت أرض الإسراء والمعراج ودنست قبلتنا الأولى، وسلبت ديارنا وسفكت دماؤنا في الشيشان والقوقاز وتتارستان والقرم وكشمير والبوسنة، ومزقت العراق والصومال وأفغانستان، وحرق أبناؤنا في بورما وتركستان الشرقية وقسمت السودان وفصلت تيمور الشرقية عن إندونيسيا ومُكنت اليونان من قبرصنا، ثم استحل سفاح الشام وخسيس مصر عبدا أمريكا دماءنا في الشام والكنانة، وحل الخراب باليمن السعيد فأمسى شقيا، ثم دمرت طرابلس الغرب بعد خراب طرابلس الشرق، ثم مجازر أبنائنا في مالي وأفريقيا الوسطى... ثم كان وكان، وما كان إلا عصر جاهليتنا بفقد إمامنا الجنة الذي به نتقي ومن ورائه نقاتل.
وزاد الأمر بشاعة أن من أبناء أمتنا الذين هم هدف للتدمير والتمزيق، أصبحوا طابورا خامسا ومعاول في يد عدوهم؛ لهدم أمتهم في إيمانها وتمزيقها شيعا ووطنيات وقوميات شتى، ونسف قطعياتها وثوابتها الشرعية تحت ذريعة الاضطرار وفقه الواقع وفقه الاستضعاف حينا، والمصلحة وفقه المقاصد وجلب المصالح ودرء المفاسد حينا آخر، حتى غدت الضرورة والمصلحة دين القوم ومقياس حلالهم وحرامهم، بهما ينسف الدين وتنتهك حرماته، حتى رتعوا في حمى الملك الديان فأصابوا محارمه.
والأنكى أن هؤلاء الحيارى لا يبصرون أنهم سجناء قفص الفكر والسياسات الغربية! فإذا ما أرادوا الوثوب كان أقصى وثبتهم داخل القفص؛ وسجنهم هذا يحجب عنهم الرؤية خارج أسواره، فبات بينهم وبين الحقيقة سور.
فحل الدولتين مثلا ليس من مخرجات فقه استضعافهم ولكنه صنيع مكر فقه الاستحمار الغربي، وليس حلا مؤقتا ولكنه مُدْيَة ذبح وتقطيع للأرض المباركة. وهدنة أمريكا لأفغانستان ليست فرجا ولكنها طلقة نار بكاتم صوت. وهدن الشام التي يشرف عليها عملاء ومرتزقة أمريكا ما كانت إلا فسحة لسفاح الشام لمزيد من المجازر لتحقيق الإذعان. ودراهم ودنانير الرويبضات العملاء للفصائل هنا وهناك فيها رصاصة للكافر مخبوءة وقتل للحقوق بهكذا مال مسموم قذر.
وعليه فلهذه الأمة العظيمة أن تعي وتدرك الحقائق التالية:
* واهمٌ من يظن أن هذا الفراغ الاستراتيجي القاتل في بلاد المسلمين جراء غياب دولة الخلافة، يمكن أن تملأه حركة أو حزب فضلا عن حظائر الاستعمار تلك الكيانات الوظيفية؛ فلا يفل الحديد إلا الحديد والدول لا تصارعها إلا دول، ومن العبث السياسي أن يتوهم المرء أن من السياسة خوض الصراع الدولي بدون دولة.
* ليست وظيفة الإسلام رَقْعَ مِزَقِ خِرَقِ هذا الواقع الرأسمالي العفن البالي، ولا تحسين وتلطيف أوضاعه البائسة، ولا تخفيف وتنفيس نكد عيشه ومعاناة وأرق أهله؛ لم تكن وظيفته يوم جاء ولن تكون وظيفته اليوم ولا في المستقبل، فالكفر كفر والإسلام هو الإسلام ووظيفة الإسلام هي نقل البشر نقلة جذرية من الكفر إلى الإسلام بعد هدم باطله في أنفسهم ونسف أصنامه في واقعهم.
* الله أغنى الشركاء عن الشرك سبحانه، فدينه الحق وما كان الحق ليستجدي الباطل، فإسلامه العظيم لا يقبل القسمة ولا الأنصاف ولا التبضيع، فعقيدته هي الدستور الحضاري للبشرية قطعا وحصرا، وهي القاعدة الفكرية الأساسية والقيادة الفكرية لبناء الإنسان والمجتمع والدولة وهي القانون الأسمى للحضارة الحقة؛ وخلافته هي الترجمان العملي لأفكاره وأحكامه، وهي الكيان الحق للاجتماع البشري ولتحقيق الرفاه والعدل والسعادة المنشودة في الدنيا وللمؤمنين به سعادة الدارين.
* إن هذا الوجود هو خلق الله وإرادته سبحانه كن فيكون، فهو تصميم وتقدير العليم الخبير، فوراء هذا الوجود مشيئة تدبره وقدر يحكمه ويحركه وناموس ينظمه وينسقه في نظام ونسق وتناغم بين أفراده وأجزائه في حركة منتظمة منضبطة مستمرة إلى ما شاء الله لا تختل ولا تضطرب ولا تتضارب ولا تتعارض؛ وهو سبحانه الذي سن للإنسان شريعة لتنظيم حياته تنظيما متناسقا متناغما مع نظام الكون لا يضل بها ولا يشقى. فشريعة الإسلام متصلة ومتناسقة ومتناغمة مع ناموس الوجود ومن ثم مع فطرة الإنسان، وهذا التناسق والتناغم مع الناموس العام يجعل السعادة واقعة في دنيا الناس ثم تُتِم تمامها وتبلغ كمالها في الدار الآخرة. فشريعة الله هي الضرورة البشرية الحتمية والحاجة التامة لتحقيق السعادة ونيل رضوان الله ودونها التيه والشقاء وضنك العيش، فالإنسان في هوان كينونته في هذا الكون الفسيح ومهانة عجزه وضعة علمه أعجز من أن يحيط بذاته هو علما فكيف بالبشرية وناموس الكون الذي يحيا فيه علما، فضلا أن يشرع ويقنن.
* إن هذا الإسلام العظيم ما كان ليكون إلا سيدا مهيمنا، قويا متصرفا عزيزا كريما، حاكما لا محكوما قائدا لا مقودا، لا يرضى إلا أن تكون حياة البشر رهن إشارته يصرفها بجملتها وينظمها من أطرافها وينسقها وفق شريعته، وذلك كله إيمان وثقة بأحكامه ورضا بقضائه واطمئنان وتسليم تامّين للمنعم به رب السماوات والأرض سبحانه.
* شُدُّوا وآزروا أبناءكم وإخوانكم من الساسة المبدئيين حملة دعوة الإسلام العظيم، الإسلام ولا شيء سواه، فعليهم وعليكم تقع التبعات الخطيرة في تحرير أمتكم بل البشرية جمعاء، ولا يكون ذلك قطعا إلا بتحطيم قفص الكفر وهدم سجنه، للخروج إلى رحاب الإسلام الفسيحة والتحليق في آفاقه الواسعة؛ خلافة راشدة على منهاج النبوة، فيصبح البصر حديدا والرؤية ثاقبة ومتحررة من قيود وتشوهات وأعطاب الرؤية الغربية العدمية، فيصبح التصور حينها شاملا كاملا والحلول مبتكرة خلاقة مصدرها هدي العليم الخبير وسنة المصطفى ﷺ.
* استنصروا أبناءكم من أهل قوتكم وبأسكم جند وضباط جيوشكم، ففيهم سعد نصرتكم ومفتاح مصراعي خلافتكم ومعول هدم رويبضات أصنامكم وقادة ملحمتكم الكبرى وطريق نصركم وعزكم وتمكينكم، وحقيق تقواكم وجميل مرضاة ربكم وتحقيق وعد وبشارة نبيكم ﷺ «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ».
رأيك في الموضوع