بكل جرأة ووضوح تصرح وزيرة الاندماج في النمسا سوزانا راب بأن "الإسلام السياسي هو سُمٌّ لمجتمعنا وحياتنا الاجتماعية، ويجب محاربته بكل الوسائل". وكانت الوزيرة قالت من قبل إنّ "الكفاح ضد الإسلام السياسي" هو أحد مهامها الرئيسية بعد حركات الهجرة القوية من الثقافات التي "تحمل السلطة الأبوية" في السنوات الأخيرة. وأضافت أنّ هناك "تأثيرات علينا مواجهتها، لذلك علينا وبسرعة إنشاء مراكز توثيق لتحركات الإسلام السياسي".
ولهذا قامت في المنتصف الثاني من شهر تموز/يوليو 2020 بإنشاء مركز جديد لتوثيق ما يطلق عليه "الإسلام السياسي"، بحجة "محاربة الفكر الخطير للإسلام السياسي". وكانت عرضت إنشاء مركز التوثيق على خبيرين اختارتهما بنفسها وهما مهند خورشيد، أستاذ علم الاجتماع والدين الإسلامي، ولورنزو فيدينو، مدير برنامج التطرف في جامعة "جورج واشنطن" اللذان اعتبرا المركز خطوة رائدة في أوروبا.
واختيارها لخورشيد كان بسبب شهرته الواسعة كـ"مسلم معتدل" اشتهر عنه دعمه القاطع لإغلاق المساجد على يد حكومة النمسا السابقة اليمينية المتطرفة، وهو ما اعتبرته المحكمة الإدارية لاحقا بأنه غير قانوني. فخورشيد مفرط في محاربة الإسلام أكثر من الوزيرة نفسها.
وأما فيدينو فقد استخدمته الحكومة التي يقودها سيباستيان كورتس لدعم مزاعمه ضد "الإسلام السياسي"، على الرغم من تاريخه المشكوك فيه مع الشبكات المعادية للمسلمين، ولعل هذا هو السبب في اختيار الوزيرة له.
الموضوع إذن هو إيجاد مسوغات قانونية وتأييد شعبي لإنشاء مركز رصد ومراقبة على غرار مراكز التجسس في جمهوريات الموز وديكتاتوريات البلاد الإسلامية، وكذلك الصين وروسيا. والأمر لا يختلف بتاتا.
لا شك أن هذا الإجراء عنصري بجدارة، ورغم أن دول ما يسمى العالم المتحضر تدعي محاربة العنصرية وتحاصر معاداة السامية، إلا أن حضارتهم تسقط أقنعتها عندما يكون الأمر متعلقا بالمسلمين، وعلى وجه الخصوص بالإسلام المبدئي.
والوزيرة نفسها هي من سعى في إنفاذ قانون حظر الحجاب على الفتيات بادعاء أنهن لا يلبسن الحجاب طواعية وإنما يُكرهن على ذلك من الأبوين، ولم يكن هذا القانون مبنيا على استفتاء أو دراسة استقصائية لمعرفة ما إذا كانت الفتيات يتعرضن حقيقة لهذه الضغوط، وإنما بُنِيَ على نمط فكري عدائي، وعلى فرض أن الأمر كذلك، فما بال الفتيات الأخريات اللواتي يُلزَمْنَ الآن بقوة القانون على نزع حجابهن رغم قناعتهن وإرادتهن المطلقة بكل حرية؟ فهل تمت مراعاة إرادة هؤلاء الفتيات وأخذ رأيهن؟ وما الفرق إذن من وجهة نظر "الديمقراطية" بين الإكراه بسلطة القانون أو الإكراه بسلطة الأبوين؟!
أما ما يتعلق بالاندماج فإن إجراءات قانونية كهذه، تكره الناس وتجبرهم على ما لا يوافق هواهم أو رغباتهم، هذه الإجراءات هي دليل فشل مبدئي وهبوط إلى مستوى ديكتاتوري لتنفيذ رغبات شخصية أو أهواء لا تراعى فيها القناعات ولا الثبات على مبدأ الحرية الشخصية وحرية الاعتقاد الذي يتغنى به الغرب. كل هذه الأفكار المبدئية تذهب أدراج الرياح إذا كان الأمر متعلقا بالإسلام والمسلمين، حيث لم نر مثل هذه الإجراءات تجاه غير المسلمين كالهندوس أو البوذيين أو يهود. فالأمر متعلق إذن بمبدأ يقف على طرف نقيض مع مبدئهم الذي ظهر للناس عواره وأزكمت رائحة فساده أنوفهم.
مبدأ الإسلام الذي هدموا دولته وقوضوا كيانه السياسي بعد صراع دموي ظنوا أنهم استطاعوا القضاء عليه قضاء مبرما لا عودة فيه، هم الآن يخشون عودته، فيصورونه للناس على أنه وحش لا إنساني، وقد قالت الوزيرة نفسها "إن الحكومة ترغب بمحاربة التنظيمات الإسلاموية والهياكل المتفرعة عنها في البلاد" وزادت تضليل الناس في طلبها "ضرورة التفرقة بين الإسلام كدين سماوي له مكانته المقدسة واحترامه، والإسلام السياسي كأيديولوجيا معادية للإنسانية". فهي لا تستحي من وصف الإسلام بأنه لا إنساني، ولعلها لا تعلم أن البشرية عاشت في أمن وأمان طوال ثلاثة عشر قرنا، على خلاف القرنين الأخيرين حيث كانت السلطة والحكم والاستبداد في يد الغرب ونظمه الرأسمالية الوحشية التي استعمرت البلاد وأبادت الشعوب ونهبت الخيرات.
ليس غريبا أن تتخذ الوزيرة من الأستاذ خورشيد مستشارا لها حيث توافق رأياهما مسبقا، فخورشيد هذا يقول: "إن تنظيمات الإسلام السياسي" تتبع أيديولوجية خبيثة تهدف إلى الحكم باسم الإسلام، حيث تستخدم الدين كوسيلة للتلاعب بالناس".
ويخضع مركز توثيق الإسلام المتطرف لإدارة وزارة الاندماج، ويحظى بدعمها الكامل، وبهيئة استشارية تضم خبراء أبرزهم لورينزو فيدينو، أهم باحث غربي في شؤون تنظيم الإخوان ورئيس مركز التطرف بجامعة جورج واشنطن الأمريكية، وفق ما أعلنته وزيرة الاندماج سوزان راب.
وعلى غرار "أرشيف وثائق المقاومة النمساوية" المعني بتوثيق جرائم اليمين المتطرف والنازيين الجدد وتحركاتهم، فإن مركز توثيق الإسلام السياسي سيكون مؤسسة مستقلة مدعومة مباشرة من الحكومة النمساوية، ويتولى نشر كتب ومقالات وأبحاث جديدة، وأرشفة المنشورات الحالية، المتعلقة بالإسلام السياسي، والتنظيمات الإسلامية المتطرفة.
فالمسألة واضحة وضوح الشمس، ألا وهي عدم قدرة الغرب على المواجهة الفكرية، والسياسية بين الإسلام من جهة والديمقراطية الرأسمالية من جهة أخرى.
وبدلا من هذه المواجهة الفكرية ومقابلة الرأي بالرأي وعرض الفكر على الناس ليختاروا ما يرونه أصلح وأفضل بقناعاتهم، يلجؤون إلى قوة القانون وسلطة الدولة وإلى أساليب خسيسة دنيئة مثل التجسس والمراقبة والمتابعة والتضييق في العيش والملاحقة الأمنية، تماما كما تفعل حكومات التسلط في البلاد الإسلامية.
أصبح خطاب الكراهية ضد الإسلام هو القاعدة أو المنصة التي ينطلق منها اليمين المتطرف للحصول على شعبية تؤهله الوصول إلى البرلمان، وصار هذا الخطاب سندا في البرامج الانتخابية للوصول إلى الحكم، وصار كثير من الساسة لا يجد مناصا إلا بالعبور من خلال هذا النفق المظلم للحصول على شعبية برلمانية، وبعضهم يثير المسألة نفسها بأسلوب خبيث ممزوج بمسوح مزينة للمسلمين المعتدلين والإسلام المعتدل الذي يهتم بالنواحي الروحية لا غير.
أدى هذا إلى تأجيج الخوف من الإسلام والعداء ضد المسلمين، وليس كما يقولون الخوف من إسلاموية أو إرهاب، فالإرهاب أصبح ينسب للإسلام والمسلمين وليس لجماعة معينة أو حزب محدد. وما نسبة الأمر لجماعة أو حصره في فئة إلا كذب وخداع، يساعد على ارتفاع نسبة الخوف في المجتمع وبالتالي إلى عدم الاستقرار وعدم التأهيل للاندماج.
هذا الوضع من عدم الاستقرار أدى إلى ظهور الجماعات اليمينية المتطرفة التي تدعو للخلاص من كل أجنبي ونبذ كل فكر غريب، وإلى الالتصاق بالقوميات والتمسك بالعصبية ورفع شعارات العنصرية، وأصبح حتى الساسة المعتدلون بحاجة إلى خطاب فيه استمالة لهذه الفئة العنصرية التي تكبر في المجتمع، حتى أصبحت هي المسيطرة على الفكر المجتمعي والشعبوي في كثير من المناطق.
الأمر ليس مقتصرا على النمسا وحدها بل أصبح استضعاف المسلمين والاستهتار بعقائدهم ومحاربة طريقتهم في العيش هو السائد في عموم المجتمعات الغربية ولا يجد المسلمون من يدافع عنهم أو يحميهم، وكيف يكون ذلك وليست لهم دولة تحمي بيضة الإسلام وتنافح عن المسلمين، يهابها المعتدون ويحسبون لها ألف حساب، فلا يجرؤ أحد على إهانة مسلم أو استضعافة أو احتقاره.
بقلم: المهندس يوسف سلامة – ألمانيا
رأيك في الموضوع