لا بد لأي أمة مبدئية من دولة ترعى شؤونها وفق الأحكام التي آمنت بها، وتعمل على حمل هذا المبدأ رسالة إلى العالم. فكانت رسالة الإسلام نموذجاً فريداً لتطبيق المبدأ من خلال دولة على أمة، فاستمرت ما يقارب الثلاثة عشر قرناً، طبقت خلالها أحكام الإسلام على المسلمين وغير المسلمين من رعاياها، فخَبِرَ الناس التطبيق الصحيح لأحكام الله تعالى، ونعم رعايا الدولة بالأمن والعزة وحفظ الكرامة والعدل والرخاء الاقتصادي والازدهار الحضاري.
وسطَّرت صفحات التاريخ المواقف المشرفة للرسول ﷺ، ولأمَّتِه من بعده، هذه المواقف التي تبين حال المسلم المعتز بدينه ودولته؛ فها هو قائدنا وقدوتنا محمد ﷺ يبعث رسائل إلى ملوك الأرض، يدعوهم فيها إلى الإسلام ويتوعدهم، وحينها لم يكن عمر دولة الإسلام إلا سبع سنوات أي أنها ما زالت دولة وليدة.
وموقف الخليفة العباسي المعتصم بالله ليُبيِّن ما كان للمسلمين من عزة وكرامة في ظل دولتهم؛ فعندما وصله خبر أن امرأة استنجدت به بقولها وا معتصماه، أرسل المعتصم رسالة إلى أمير عمورية قائلا: "من أمير المؤمنين إلى كلب الروم أخرج المرأة من السجن وإلا أتيتك بجيش بدايته عندك ونهايته عندى"، فلم يستجب الأمير الرومي، وكتب إليه ملك الروم يحذره ويهدده، فلما قرأ المعتصم رسالته رد عليه قائلاً: "بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فقد قرأت كتابك وسمعت نداءك والجواب ما ترى لا ما تسمع، ﴿وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ﴾"، وانطلق المعتصم بجيشه ليستعد لمحاصرة عمورية فمضى إليها. فأصبح موقف المعتصم مثالا يضرب في كل زمان، وعند كل موقف تستغيث فيه امرأة وتستنصر المسلمين.
وكيف تصرف السلطان عبد الحميد الثاني عندما وصله خبر حول مسرحية فرنسية مسيئة للرسول ﷺ، فاستدعى السفير الفرنسي فكونت مُونتبلو، وخاطبه بلهجة شديدة قائلاً: "أنا خليفة المسلمين عبد الحميد خان، سأقلب الدنيا على رؤوسكم إذا لم توقفوا تلك المسرحية". وعندما طلب هرتزل من الخليفة عبد الحميد الثاني إعطاء أراضي فلسطين لليهود ليستقروا فيها رد عليه الخليفة بالقول "لا أستطيع بيع حتى ولو شبر واحد من هذه الأرض، لأن هذه الأرض ليس ملكاً لشخصي بل هي ملكٌ للدولة العثمانية، نحن ما أخذنا هذه الأراضي إلا بسكب الدماء والقوة ولن نسلمها لأحد إلا بسكب الدماء والقوة والله لئن قطعتم جسدي قطعة قطعة لن أتخلى عن شبرٍ واحد من فلسطين".
هذه المواقف وغيرها الكثير الكثير من قادة المسلمين ومن رجال الأمة، تظهر بشكل واضح وجلي كيف كان الارتباط الوثيق للمسلم بمبدئه ودولته.
وقبل الإعلان عن إلغاء آخر قلاع المسلمين الخلافة العثمانية في 28 رجب من عام 1342هـ على يد المجرم مصطفى كمال، وقبل ذلك بدأ الغرب بالصراع الفكري مع الأمة، عن طريق ضرب المفاهيم التي تخص أمور الدولة والحكم، وفتكت تلك الأفكار في جسد الأمة تمهيداً للقضاء على دولتها وسلطانها، وكان له ذلك.
ثم تبع ذلك التقسيم الجغرافي، للتمهيد للأفكار الوطنية والقومية والعرقية. فوظفت الدول الغربية على الأمة عملاء بصفة حكام، يخدعون الناس بخطابات رنانة وعنترياتٍ مزيفة ومعارك وهمية ضد الصهيونية والإمبريالية. واستمر العمل على سلخ الأمة من مفاهيمها الإسلامية الصحيحة، وحصر الدين في المساجد والمعاهد ودور العلم، وبدأت هذه المنابر المصطنعة بطرح الأفكار المسمومة، فطرحت فكرة خطيرة وعُمل على الترويج لها وهي أن لا علاقة للدين بالسياسة والحكم، وأن على الأمة أن تكتفي بالعبادات، فدعمت الدول بناء معاهد تحفيظ القرآن والدراسات الشرعية وبنت المساجد والزوايا وأقامت حفلات تخريج حفظة القرآن، فكان طرحهم بشكل عام لا يتجاوز أحكام الطهارة والزواج والطلاق، وغيرها من العلاقات الاجتماعية والشعائر الإسلامية، ومن يتجرأ من العلماء ويخالف الطريق المرسوم يسجن أو يعدم أو ينفى.
فكُبِّلت الأمة على يد الأنظمة ورجال الدين، ومارست الحكومات ضدها سياسة التجهيل المنظم عن طريق طرح المفاهيم المغلوطة وتنشئة الجيل على المبادئ الفاسدة، وعُمِل أيضاً على ضرب الرابطة الدينية التي تجمع المسلمين باستبدال الروابط القومية والوطنية وحتى العشائرية بها، ولكن الإسلام متجذر في النفوس، فكانت الأمة مع كل حدث يخص المسلمين في العالم تحاول أن تنهض من جديد وتستعيد حيويتها، فتمكر لها الدول وتقطف ثمار حركتها وتعيدها مرة أخرى إلى تحت الرماد، حتى أذن الله تعالى بقيام الثورات، فخرج الجمر من تحت الرماد، وبدأت الأمة تنهض من تحت الركام، فعايشنا تَوْقَها لاستعادة سلطانها، فشاهد العالم أجمع كيف تعاطفت الأمة مع قضية مسلمي الروهينجا، وكيف وقفت موقف الرجال من الدول التي قمعت الثورات وأعلنت حربها على المسلمين، وكذلك المظاهرات التي خرجت رداً على الرسوم المسيئة لشخص الرسول ﷺ، وشاهدنا تكاتفها في شرقها وغربها ضد الأنظمة المستبدة، فقدَّمت التضحيات، وبذلت الدماء والأموال، وانتقل المسلمون خطوات نحو استعادة قرارهم المسلوب، فأعطت الأمة الإسلامية العالم درساً واضحاً جلياً لا غبش فيه عن ترابطها، وكيف تعاطفت بمجموعها حيال قضاياها، وكيف نبذت الروابط المصطنعة، وعبَّرت بأفعالها عن رابطتها التي اختارها الله لها، وهي الرابطة الدينية.
ولعلَّ الله سبحانه وتعالى أراد بهذه الأمة خيراً عظيماً، فقد كُشفت للقاصي والداني عمالة الأنظمة التي تحكم البلاد الإسلامية، والتي أصبح حالها تجاه قضايا الأمة، صُمّاً عن سماع الحق، بُكماً لا يتفوهون به، عُمياً عن رؤية طريقه ومسلكه.
وكان آخر موقف تجرأ فيه الحكام على الله تعالى، وعلى الأمة، هو التطبيع العلني مع الكيان الغاصب بعد أن كان سرياً، وأخذ علماء السلطان دورهم المعهود بتبرير هذه الأفعال، وحاولوا من خلال هذه الحركات إيصال رسائل إلى الأمة أنكم بلا قرار ولا أي قيمة، ولكن خاب رجاؤهم ومسعاهم، فهذه الأمة صنعها كتاب ربِّها وسنة نبيها ولا زال هذا الكتاب وهذه الشريعة بين يديها، وستصنعها من جديد، إن هي اهتدت إلى الطريق الصحيح. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ». رواه الترمذي
فسلعة الله غالية، وعلى من يريد تحصيلها، أن يشمر ويجد ويجتهد في طاعة الله تبارك وتعالى، ولا يتوانى ولا يتراخى، من أجل أن يصل إلى مطلوبه، إلى مأمنه بإذن الله، في ظل دولة الخلافة على منهاج النبوة، وتحت ظل إمام جُنَّة يُقاتل من ورائه، ويتقى به، وعندها تعود الأمة الإسلامية أمة تمثلها دولة تحفظ كرامتها وتصون أعراضها وتطبق شريعة ربها، وما ذلك على الله بعزيز.
بقلم: الأستاذ ياسر أبو الوليد
رأيك في الموضوع