الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،
يقول الحق تبارك وتعالى في محكم التنزيل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾. سأل عبادُ بن منصور الحسنَ رضي الله عنه عن ذلك فقال: أخذ الله ميثاق النبيين: ليبلِّغن آخرُكم أولَكم، ولا تختلفوا. وقال آخرون: معنى ذلك: أنه أخذ ميثاق النبيين وأممهم، فاجتزأ بذكر الأنبياء عن ذكر أممها، لأن في ذكر أخذ الميثاق على المتبوع، دلالةً على أخذه على التبَّاع، لأن الأمم هم تُبَّاعُ الأنبياء. أهـ
ولا شك أن العلماء هم ورثة الأنبياء الذين ورثوا العلم عنهم، وصاروا بهذا الميراث أمنةً للناس، وبوصلة ترشدهم إلى طريق الحق والهداية. فإن هم قاموا باستحقاقات هذا الميراث على الوجه الشرعي المطلوب منهم، فإن الله سبحانه وتعالى سيحشرهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وإن هم نبذوا هذا الميراث وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا، فإن الله عز وجل سيجعلهم أول وقود النار يوم القيامة، يسعّرها بهم بعد أن يستنطقهم، كما جاء عند مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُولُ: «إنّ أَوّلَ النّاسِ يُقْضَىَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتّىَ اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ حَتّىَ أُلْقِيَ فِي النّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلّمَ العِلْمَ وَعَلّمَهُ وَقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلّمْتُ العِلْمَ وَعَلّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلََكِنّكَ تَعَلّمْتَ العِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِىءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ حَتّىَ أُلْقِيَ فِي النّارِ، وَرَجُلٌ وَسّعَ الله عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ كُلّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إلاّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ، ثُمّ أُلْقِيَ فِي النّارِ».
وهذا تهديد صريح للعلماء الذين يبتغون بعلمهم رضا الحاكم في أمر يُسخط الله، ولسنا بحاجة إلى أن نثبت حُرمة التطبيع مع كيان يهود الغاصب لأرض الإسراء والمعراج وفي قلبها المسجد الأقصى المبارك، ولكن الذي يقلقنا هو التوظيفات المشبوهة للنصوص الشرعية من كتاب وسنة وغيرها من طرف علماء الدين الرسميين، لتتماهى مع توجهات حكام دويلات الضرار الخونة في السعودية والإمارات نحو التطبيع مع كيان يهود. وصار أولئك العلماء منهمكين في تبرير التطبيع مع كيان يهود، والسعي لتسويقه على المستوى الشعبي، الأمر الذي يجعلنا نجزم بعدم استقلالية المؤسسات الدينية الرسمية، لا سيما وأن هذه المؤسسات تغير من فتاواها وأحكامها الدينية، وفق تغير الواقع السياسي، وما تراه السلطة الحاكمة في كل بلد، وما يقوم به العلماء في تلك المؤسسات من مداهنة للحكام العملاء وتجميل صورتهم وتزيين جرائمهم عند شعوبهم. بل وأكثر من ذلك، فقد ظهر التناقض في فتاوى العالم نفسه، وفي فترة قصيرة، حيث أفتى بعضهم بحرمة الغناء ثم أفتى بحله، وأفتى بوجوب قتال نظام الأسد في سوريا ثم أفتى بحرمته، وأفتى كبيرهم في المسجد الحرام بعداوة اليهود غاصبي فلسطين والمسجد الأقصى، ثم هو نفسه قد بدأ يمهد للتطبيع معهم، ويقحم الأدلة على جواز التطبيع معهم إقحاما لا يستقيم وفق أي معيار من معايير القياس الشرعي لعدم وجود أي علة جامعة بين الوقائع التي استدل بها وبين واقع كيان يهود الغاصب للمسجد الأقصى والأرض المباركة! وهذا الاضطراب الفاضح في فتاوى أولئك العلماء يجعلهم غير مؤتمنين على دين الناس، ويشي بإصابتهم بمتلازمة التخبط الفقهي، تحل ما حرم الله، وتحرم ما أحله! وهي ظاهرة مَرضية توجب حَجْرا فقهيا على من يصاب بها - ولو كان من أعلم علماء الأرض - حتى يصلح حاله ويتعافى من مرضه.
والواضح أننا لن نستطيع معالجة هذه المتلازمة الخطيرة، ونتمكن من القضاء على هذه الجائحة الفقهية الفتاكة، إلا بالعمل مع العاملين لإقامة دولة خلافة المسلمين الراشدة الثانية على منهاج النبوة، والموعودة من ربنا عز وجل، والمبشَّر بها من رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه. وبعدها نعلن للعالم أجمع خلوّ العالم الإسلامي من متلازمة التخبط الفقهي التي أصابت مؤسساتنا الدينية ومراجعنا الفقهية. عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ، وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ» (رواه أحمد)
وحتى ذلك الحين، فإن من واجب العلماء الربانيين الذين يحترمون أنفسهم ويثمنون مواقعهم بين الناس أنهم ورثة النبي محمد ﷺ، أن يكونوا من أولي البقية الذين ينهون الحكام عن فسادهم وإفسادهم، وأن يرفعوا عقائرهم مطالبين بالحكم بما أنزل الله ونبذ أحكام الطاغوت والجاهلية، وفي الوقت نفسه يسعون جاهدين لتوعية أمتهم، وإشاعة ثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يزحف الناس كالطوفان الهادر لهدم عروش الطواغيت، ومبايعة إمام يحكمهم بكتاب الله سبحانه وسنة نبيه ﷺ.
بقلم: الشيخ عصام عميرة - بيت المقدس/ فلسطين الأسيرة
إمام مسجد الرحمن وخطيبه (سابقا)
رأيك في الموضوع