لكل أمة من الأمم ولكل شعب من الشعوب أدبيات يعودون إليها ومرجعية يفزعون إليها إذا أحاطت بهم المصائب ودارت عليهم الدوائر، وهذا ما قرأناه عن بني إسرائيل في القرآن الكريم، وهذا ما يجب أن نقوم إليه باعتبارنا أمة لها دستور ومرجعية من الوحي تَصلح، بل تُصلح كل زمان وكل مكان.
فقد تزاحمت عندنا ألوان البلاء وتكاثر علينا الأعداء ونحن في حالة ضياع وتشتت، تماماً كما حدث مع بني إسرائيل إذ جاءتهم أقوى جيوش العالم آنذاك بقيادة جالوت، وسعت فصائلنا إلى السلطة ولو على مستوى الحارات والقرى، وحالنا حال ملوك الطوائف، كما سعت قبائل بني إسرائيل إلى المنصب ورفضت كون الملك في غيرهم، ﴿قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾. وابتلانا الله بنهر الدعم الخارجي والمال السياسي، كما ابتلاهم بمنع شرب ماء النهر وهم في أشد الحاجة إليه. وابتلانا بدسائس القلوب المريضة وإشاعات النفوس المنهزمة، كما ابتلاهم... فلسان حال المنهزمين اليوم لا طاقة لنا ببشار وأحلافه وجنوده.
أخي القارئ:
إن التفكير - الذي هو نقل الواقع المحسوس إلى الدماغ وربطه بالمعلومات السابقة ثم إصدار الحكم عليه - يجب أن يبنى على ثوابت وحقائق حتى يكون صحيحا لا يعتريه الوهم، والحذر من المغالطات التي تصرف عن الحقائق. وهذه المغالطات تحصل بإيجاد أعمال تصرف عن الحقائق أو إيجاد أفكار تصرف عنها.
فمثلاً كون الأمة لا تنهض إلا بالفكر حقيقة، ولكن لصرف المسلمين عن حقيقة النهضة أوجدت أفكار: أن النهضة تكون بالأخلاق وأنها تكون بالعبادات وأنها تكون بالاقتصاد... إلى غير ذلك من الأفكار.
وكون المنظومة الدولية لا تريد خيراً للمسلمين وبلادهم حقيقة، ولكن لصرف المسلمين عن هذه الحقيقة روجت أفكار: أن الأمم المتحدة هي الراعية للأمان والمحافظة على السلام في العالم وأنها تستنكر وتقلق بشأن الظلم الذي يقع على شعوب بلادنا.
وإن كون الكافر المستعمر لا يزال يقاتل أمة الإسلام حتى يردها عن دينها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، هذه حقيقة، ولكن لصرف الناس عن كونه إرهابيا ومتطرفا ووحشيا روج الكافر المستعمر أفكار أن المسلمين إرهابيون، وعتم عن جرائمه ودفنها فيستمر بذلك في حقيقته وهي حرب على الإسلام متستراً بتلك المغالطات.
والقرآن يحوي معالجات لمشاكل الإنسان جميعها في مختلف الأزمان، وهذه حقيقة، ولكن لصرف الناس عن هذه الحقيقة التي عاشها المسلمون اثني عشر قرنا أو يزيد، روج بينهم مغالطات أن القرآن لا يصلح لهذا الزمان وأنه غير قابل للتطوير فضعفت ثقة المسلمين بدينهم...
وهكذا تجري المغالطات لصرف الناس عن الوصول إلى الحقائق. ولذلك لا بد من الانتباه للمغالطات ولا بد من التمسك بالحقائق والقبض عليها بيد من حديد، ولا بد من العمق في الفكر والإخلاص في التفكير للوصول إلى الحقائق.
ومن أخطر ما يحصل لعدم الانتفاع بالحقائق هو إهمال حقائق التاريخ، ولا سيما الحقائق الأساسية فيه، وذلك أن التاريخ فيه حقائق ثابتة لا تتغير، وكما يقول الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله في كتابه "التفكير": "حقائق التاريخ هي أغلى ما لدى الإنسان، وأعلى أنواع الأفكار".
فالتفكير بالحقائق سواء بالوصول إليها أو بتميزها من غير الحقائق، أو بالقبض عليها بيد من حديد والانتفاع بهذه الحقائق هو التفكير المجدي والتفكير الذي تكون له آثار هائلة في حياة الأفراد والشعوب والأمم.
وما فائدة التفكير إذا لم يؤخذ للعمل به وإذا لم يقبض على الحقائق ويتمسك بها وإذا لم يميز بين الحقيقة وغير الحقيقة؟!
لكن التفكير بما يُقرأ يحتاج إلى بحث خاص، ولفت نظر معين. ذلك أن القراءة وحدها لا توجد التفكير، لأن القراءة والكتابة هي وسيلة للتفكير وليست هي التفكير. فكثير من الذين يقرؤون لا يفكرون، وكثير من الذين يقرؤون ويفكرون لا يستقيم لديهم تفكير، ولا يصلون إلى الأفكار التي عبر عنها الكلام. فكان من الخطأ أن توجد عناية بإزالة الأمية من أجل تعليم الناس وأن يوجه الجهد لمحو الأمية من أجل إنهاض الشعب أو الأمة؛ لأن القراءة والكتابة لا تغذي العقل بشيء، ولا تبعث في النفس ولا في العقل أي دافع للتفكير، لأن التفكير يوجده الواقع والمعلومات السابقة.
والقراءة ليست واقعا يُفكر فيه، ولا معلومات يفسر بها الواقع فلا قيمة لها في التفكير، وإنما هي تعبير عن الأفكار فمجرد قراءتها لا توجد الأفكار في الذهن ولا تبعث على التفكير. وما هي إلا تعبير عن الأفكار، فإذا كان القارئ يحسن فهم هذا التعبير وجدت لديه الأفكار من إحسان فهمه لا من القراءة، وإذا كان لا يحسن الفهم لا توجد لديه أفكار ولو قرأ ساعات أو سنين؛ ولذلك لا بد من بحث التفكير بالنصوص وكيف تفهم هذه النصوص. وأعظم النصوص بين أيدينا هو النص القرآني الذي وصفه أعداؤه، فقال الوليد بين المغيرة: "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته"، هذا النص القرآني الذي هو أدبياتنا ومرجعيتنا...
وبالعودة إلى قصة طالوت، فإننا في النهاية يجب أن نفزع إلى الوحي كما فزعوا هم إلى نبيهم، وينبغي أن نتخذ قيادة واحدة كما اتخذوا طالوت ملكاً، وعلينا الاعتقاد بأن الله هو الناصر كما قالوا ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
وهكذا كل نصوص القرآن وقصصه إذا قرأناها بهذا الشكل كانت لنا هداية وقوامة. ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيراً﴾.
بقلم: الأستاذ أحمد حاج محمد
رأيك في الموضوع