مهما بلغت قوة الحاكم وجبروته فإنه يحتاج إلى خداع الشعب الذي يتسلط عليه فيقدم نفسه صاحب فكرة أو قضية ويحاول أن يبدع في أساليب الخطاب السياسي الذي يحاول به إقناع الناس، أو خداعهم بفكرته، بالإضافة إلى سياسة القمع والتخويف لإسكات كل من لا ينخدع بخطابه.
أما الحكام الهداة الراشدون، الذين يتبعون نهج رب العالمين، وهدى سيد المرسلين، فإن خطابهم السياسي يتسم بالصدق ويهدف إلى ترسيخ مبدأ الإسلام ونظامه في عقول أبناء الأمة ويثير في نفوسهم تقوى الله عز وجل وهي التي تدفعهم للالتزام طواعية بأحكام الإسلام وطاعة من يحكم بها ويدفعهم للتضحية في سبيل إعلاء كلمة (لا إله إلا الله) والدفاع عنها، ومن ضعفت تقواه يردعه السلطان القائم على العدل وليس الخوف والبطش.
لقد ضرب لنا القرآن مثلاً للخطاب السياسي المخادع عندما تحدث عن أكبر طاغية في التاريخ ألا وهو فرعون عندما لبس ثوب الناصح لشعبه المشفق عليهم ليجمعهم حوله حتى لا يتبعوا موسى عليه السلام: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾، وهو الذي استعبد قومه وكان يقتّل أولادهم ويستحيي نساءهم، ورغم بطشه وتنكيله بهم يخبرنا الله عز وجل عنه بقوله: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾.
وكان واقع فرنسا قبل الثورة التاريخية يعبر عن خطاب استبدادي طبقي، وحين اندلعت الثورة سنة 1789م بخطابها السياسي الجديد لتزرع مفاهيم جديدة استطاعت أن توجِد حركةً جديدة في المجتمع، فقد نادت بفكرة فصل الدين عن الحياة ورفعت شعار حكم الشعب نفسه بنفسه وطالبت بحقوق الإنسان والحريات، فكان لهذه الأفكار والخطاب السياسي الذي قدمت به دور كبير وأساسي في تغيير واقع فرنسا وأوروبا تغييراً كلياً، من سيطرة الكنيسة والملوك إلى المبدأ الرأسمالي والأنظمة الحاكمة بالديمقراطية.
وكذلك الواقع العربي الجاهلي قبل الإسلام، كان نتاج خطاب سياسي جاهلي لا يؤمن برسالة في الحياة ولا يرى ضرورة لوحدة وجماعة وأمة ولا لدولة ورعاية ولا يأبه بالعدل.
وما كان ذاك التحول الجذري للمجتمع العربي الجاهلي ليتحقق لولا ظهور خطاب سياسي جديد، قائم على أساس العقيدة وقواعدها التشريعية والتفصيلات الدستورية والقانونية التي تنبثق عنها، والتي جاء بها سيدنا محمد ﷺ، فغير به ليس جزيرة العرب فحسب بل وجه العالم كذلك.
ولو أعدنا قراءة خطبة أبي بكر الصديق عندما تولى الخلافة لأدركنا النموذج المتميز لخطاب الهداة الراشدين الذي يتسم بالتقوى والصدق مع الرعية والحرص على سيادة الشرع وعدالة تطبيقه: "أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم. القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له".
هذا هو الخطاب السياسي المستمد من وحي رب العالمين، هذا الخطاب السياسي الذي لا ينفصل عن سياسة الحاكم بل هو تعبير صادق عن هذه السياسة التزم بها الخلفاء من بعد أبي بكر أروع التزام، وقد شهد التاريخ على ذلك.
ليأتي بعد ذلك خطاب سياسي ينادي به المنضبعون بالغرب وثقافته، خطاب يعزل الدين عن الحياة والدولة ولا يعترف بحصر حق التشريع بإله الناس وخالقهم، خطاب يحرر المجتمع من أي قيود ويطلق العنان لعقول البشر أن تضع قوانين الدولة، ولما كان هذا الخطاب السياسي متناقضاً مع هوية الأمة وعقيدتها ودولتها راح الظلاميون والمضبوعون بالعلمانية يُلبسون الخطاب لبوساً إسلامياً ويروجون أنه من الإسلام، والله ورسوله والمؤمنون منهم ومن خطابهم براء.
هذا الخطاب الذي يروج له الإعلام والتربية والتعليم والأوقاف ورابطات علماء السلاطين والمضبوعون والمنهزمون من الهيئات والفصائل والأحزاب، هذا الخطاب المخادع، هو الذي يحاول سلخ الأمة من جوهرها ويفصلها عن عقيدتها ويبعدها عن تشريع ربها، ويجعلها بلا كيان ولا كرامة ولا قيمة ولا معنى، ويجعل السيادة لشرع البشر لا لشرع الله، والسلطان لأعدائنا لا لأمتنا.
ومن أمثلة الخطاب السياسي المبدل المخادع في العصر الحديث خطابات جمال عبد الناصر الذي رفع القومية العربية شعارا وزينها بالاشتراكية وزعم محاربة الرأسمالية وهو لأمريكا خادم وعميل، فأضاع البلاد وظلم العباد وخدم أعداء الأمة.
وكذلك خطاب حكام آل سعود الذي تزين بلباس الإسلام خداعاً وزوراً، ولكنهم كانوا في خدمة أعداء الأمة ومخططاتهم، وقد ظهرت حقيقتهم جليةً في زمن ابن سلمان بكل صفاقة.
وهذا أردوغان الذي رفع شعارات الإسلام ليستغل مشاعر المسلمين من أهل تركيا ليضمن نجاحه في الحكم واستمراره، وقد عاين أهل ثورة الشام وعانوا الكثير من خطابه السياسي المخادع وخطوطه الحمراء التي ما لبثت أن سقطت واحداً بعد الآخر.
وكي تتضح الصورة فلا بد من مقارنات ومفارقات عامة بين أسلوب الخطاب السياسي المنزّل وأسلوب الخطاب السياسي المبدّل.
الخطاب المنزل: يقضي أن تكون السيادة لله وشرعه وحده، بينما الخطاب المبدل يرفع شعار الإسلام باعتباره مصدراً رئيسياً للتشريع، لكن ليس مصدراً وحيداً، وذلك خداعاً ومكراً. فمن حق مجلس البرلمان التصويت على أي حكم من أحكام الله لأخذه أو تركه وبالتالي فالمشرّع هو البرلمان وليس الله.
الخطاب المنزل: خطاب مبدئي وحمَلته مبدئيون صادقون، يؤثر بالواقع ولا يتأثر به مطلقاً فيدور مع أمر الله حيثما دار، بينما الخطاب المبدل واقعيٌ وحملته منهزمون نفسياً أمام المجتمع وضغوطات الواقع فيدورون مع المصلحة حيث دارت ولو خالفوا أمر الله وشرعه.
أسلوب الخطاب المنزّل يرى الحق حقاً والباطل باطلاً ولا يراوغ ولا يداهن ولا يتنازل، أما الخطاب المبدّل فيأخذ بأنصاف الحلول ولا يعطي اعتباراً لحق أو لباطل فهو مستعد للانسلاخ من أي قناعة فداءً لمكاسبه وإرضاء لأسياده.
الخطاب المنزل يقدم خطة عمل واضحة وطريقة تطبيق من جنس الفكرة، وسيرة المصطفى خير دليل وشاهد على سيره في خطا ثابتة وبوحي من الله حتى أقام دولة الإسلام وعلى نهجه سار الخلفاء الراشدون من بعده، بينما الخطاب المبدل: يتخبط في فكرته وطريقته؛ فهناك حزب يصرح بالديمقراطية ويعتبرها من الإسلام، وهناك فصيل يريد حكماً إسلامياً لكنه يضع يده بيد شياطين الإنس والجن، وذاك قائل: سنربي جيلاً كصلاح الدين وما علم أن صلاح الدين لم يكن لولا سلفه نور الدين زنكي. وهناك من يزعم أنه يريد المقاومة وتحرير القدس ولكنه يضل الطريق فيرتكب أفظع المجازر في بلاد الشام.
الخطاب المنزل: هو رسالة وقضية وحسن رعاية كما قال سيدنا ربعي بن عامر: "ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"، بينما الخطاب المبدل: هو تميّع وضياع عن هدف الحياة ووظيفة الخلق وليس له علاقة بالرعاية أبداً، بل دولته دولة جباية واستغلال.
وللأسف فإن أبرز من يروج للخطاب المبدل أكثرهم ممن يسمون بالمشايخ، بعمالة أو بحماقة أو بجهل بحقيقة الإسلام، وكما قال عبد الله بن المبارك: "وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها؟".
إن الخطاب السياسي الذي يحقق التغيير وينهض الأمة هو الخطاب الذي يرسخ مفاهيم الإسلام وسيادة الشرع وسلطان الأمة. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّـهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم﴾.
وإننا في حزب التحرير نخاطب الأمة بالخطاب السياسي الذي نسير به على نهج ربنا ونتأسى به بهدي رسولنا ﷺ جاعلين قدوتنا صحابته الكرام وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
ونحن ندعو أمتنا للعمل معنا لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي تقضي على كيان يهود وتحرر الأقصى وتخلص الأمة من العملاء المتسلطين على رقابها الذي يخدعونها بخطابهم السياسي المسموم.
رأيك في الموضوع