الأصل براءة الذِّمة ما لم تثبت التهمة ببينة في مجلس قضاء، ويحرم إيقاع العقوبة على المتهم قبل أن تثبت عليه الإدانة، ويحرم على القاضي إيقاع العقوبة بما جعله الله عذاباً في الآخرة وهو النار.
وقاعدة استصحاب الأصل تقتضي براءة الذِّمة إلا بثبوت البينة في مجلس قضاء، لقوله ﷺ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» أخرجه البيهقي بسند صحيح. وهذا ما بينه رسول الله ﷺ عملياً في القضاء، فعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قال: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْحَضْرَمِيِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟» قَالَ: لاَ، قَالَ: «فَلَكَ يَمِينُهُ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: «لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلاَّ ذَلِكَ» أخرجه مسلم، فالقاضي لا يقضي بعلمه، ويبقى المتهم بريئاً حتى تثبت إدانته بالبينة الشرعية، لقوله ﷺ في امرأة كانت تُظْهِرُ السُّوءَ في الإسلام: «لَوْ كُنْتُ رَاجِماً أَحَداً بِغيْرِ بينَةٍ لَرَجَمتُهَا» متفق عليه، و"لو" في اللغة العربية حرف امتناع لامتناع؛ فامتنع الرجم لامتناع البينة، و"البينات أربعة أنواع ليس غير وهي: الإقرار، واليمين، والشهادة، والمستندات الخطية المقطوع بها" (أحكام البينات للشيخ أحمد الداعور صفحة 9).
أما تعذيب المتهم فجريمة كبرى في الإسلام، يُعاقَب مرتكبها عقوبة شديدة وفق أحكام الشرع، كما أنَّ انتزاع الاعتراف بالتعذيب لا قيمة له في إجراءات القضية.
ليس هذا فحسب بل حتى لو ثبتت التهمة على المتهم بالمحاكمة القضائية السليمة المستقيمة فلا يجوز أن يقرر القاضي عقوبة على المتهم فيها تعذيب، بل فقط العقوبات التي نص عليها الشرع؛ لأنّ العقوبات في الإسلام شرعت لزجر النّاس عن الجرائم، ولم تشرع للتعذيب. عن الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «فَمَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْراً فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضاً فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ أَخَذْتُ لَهُ مَالاً فَهَذَا مَالِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ» المعجم الأوسط للطبراني. وقد قال الرسول ﷺ ذلك وهو حاكم، والمقصود لو جلدته ظلماً أو أخذت ماله جوراً.
وللواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم، والسمة الغالبة على دويلات الضِّرار القائمة في البلاد الإسلامية التي اعتبرت السلطة مغنما ومكسبا، فجعلت مسألة القمع والتنكيل بالناس سمة بارزة لها، لهذا الأمر كانت المادة الثالثة عشرة في مشروع دستور دولة الخلافة، الذي أعده حزب التحرير بين أيدي المسلمين: "الأصل براءة الذمة، ولا يعاقب أحد إلا بحكم محكمة، ولا يجوز تعذيب أحد مطلقاً، وكل من يفعل ذلك يعاقب" (مشروع دستور دولة الخلافة صفحة 5). جاءت هذه المادة في مشروع الدستور في قسم الأحكام العامة، لتبرز أنَّ دولة الخلافة الثانية هي دولة عدل ورحمة للناس وليست كأيّ دولة، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: ٥٨].
بقلم: الأستاذ محمد صالح
رأيك في الموضوع