ابتدأت في منتصف كانون الأول/ديسمبر 2018م، مظاهرات عارمة ضد نظام الإنقاذ في العديد من المدن السودانية: سنار، الدندر، الخرطوم، عطبرة، دنقلا، القضارف، بورسودان، وود مدني، وغيرها. لقد كانت هذه الثورة ضد النظام الحاكم أمراً طبيعياً لما آل إليه الوضع في السودان، فليس هنالك سبب يجعل الناس يتراصون في صفوف لشراء الخبز، والمحروقات، بل في طوابير طويلة بالساعات في الصرافات، وبنوك تمنع الناس من أموالهم، وحرائق مشبوهة لأسواق بها أموال مكدسة، وإكراه الناس على التعامل مع النظام المصرفي، وقبل ذلك كله غلاء فاحش، نسبة للضرائب المتنوعة المفروضة على القطاع الزراعي، والصناعي، والتجاري، والخدمي، فنتج عن ذلك كله فشل للمشاريع الزراعية، فأصبح القطاع طارداً، وأغلقت آلاف المصانع، وعم الكساد في الأنشطة التجارية، أما القطاع الخدمي فيكفي أن ثمن تذاكر الطيران التي كانت في أواخر السبعينات إلى الأراضي المقدسة بخمسين جنيها وصلت مع هذه الأزمة، وقبلها، إلى عشرات الملايين! لقد كانت حكومة الإنقاذ تسن قوانين لتجعل نظامها قانونياً وأفعالها هذه مؤيدة بالقانون، وطريقها في ذلك لم يكن من الشعار الذي رفعته منذ استيلائها على السلطة في 1989م، لقد كان شعارها (لا لدنيا قد عملنا نبتغي رفع اللواء) - يقصدون لواء رسول الله -، و(لغير الله لن نركع)، و(أمريكا وروسيا قد دنا عذابها) فلم تجعل الإسلام أساساً بل طبقت الرأسمالية في أبشع صورها، عندما فصلت الدين عن الحكم، وكانت البشاعة عندما تجاوزت في السوء القانون الذي وضعته.
لقد كان للتدخل الأمريكي في سياسات الدولة عبر مؤسساتها مثل صندوق النقد الدولي، الذي وصل إلى درجة أن جُعل له مكتب بوزارة المالية يسمى بالمكتب الاستشاري، هذا التدخل جعل تقنينه في شكل تشريعات على الطريقة الديمقراطية التي تجعل الحكم للبشر لا لرب البشر، فتبنته رئاسة الدولة بمجلس وزرائها ثم دُفع للبرلمان (المجلس الوطني) لتشرعه، ليُقهر الناس به بقساوة الجندي وصرامة القانون. لقد كان ملخص ذلك روشتة مقيتة تحملها أمريكا لتدمر بها أهل السودان... منها زيادة الضرائب، ورفع الدعم عن السلع الضرورية، وتقليل النفقات الحكومية في الصحة، والتعليم، وتعويم سعر العملة، والخصخصة.
أما مخالفة القانون فقد تمثل في الاحتكارات الهائلة، ورغم أنها من صميم النظام الرأسمالي الذي يفصل الدين عن الحياة، فقد وصل إلى حالة مزرية حيث تم توزيع مكامن الثروات على طبقة معينة من أنصار النظام مثل تجارة السكر والإسمنت، والحديد، والدقيق، الذي يستورد من الخارج، مع أنه ليس هناك سبب لاستيراد حبة قمح واحدة، أو ذرة سكر واحدة، في بلد كالسودان، وكذلك احتكار الدواء والمعادن وكثير من الخدمات، هذا الأمر جعل المال دولة بين طبقة محدودة، مما أدى إلى زيادة فقر من طردوا من الأنشطة الاقتصادية الأربعة، أو العاطلين أصلا عن العمل أو العاجزين. وكان من مخالفة هذا القانون الذي وضعته حكومة الإنقاذ طباعة العملة دون غطاء حيث أتت بمطبعة للنقود أخذت تعمل دون توقف لطباعة كميات هائلة من النقود، أدت إلى دمار الجنيه السوداني كقوة شرائية، فانهار الجنيه أمام الدولار وبقية العملات. فكانت مخالفة القانون حيث نصت ميزانية 2017م على طباعة كتلة نقدية تصل إلى 18% من الكتلة الموجودة حينها، ولكن تمت طباعة 57% وهذا حتما أدى إلى غلاء طاحن، أضيف إلى ما سببته الضرائب والجمارك والاحتكار من ضنك!
إن الدور الاستعماري لم يتوقف عند ذلك بل أتى بالفدرالية التي تفرق وتوجد العصبية، ثم إنها باهظة التكاليف، والتي لا يمكن أن يقلل الإنفاق فيها لأنها تأتي بجيوش من المستوزرين، فالسودان الذي كان يديره عدة محافظين وعدد من الوزراء أضحى له ثماني عشرة ولاية، لكل ولاية حكومة قائمة بذاتها من مجلس تشريعي ووزراء ومعتمدين ووالٍ ولهم مخصصات مليارية. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي فصل جنوب السودان مما حدا بالإدارة الأمريكية حينها للاحتفال بهذا الانتصار الكبير، حسب زعمهم، وقد اعترف البشير أمام العالم عندما التقى بمجرم روسيا وسفاحها بوتين بأن أمريكا هي التي فصلت الجنوب.
هذا جعل الدمار والانحدار لا يتوقف منذ 2011م مع أن أمريكا وعدت جماعة الإنقاذ بالمن والسلوى إن هم نفذوا مطالبها، والتي كان آخرها الحوار الوطني الذي شارك فيه المؤتمر الوطني، وحزب الأمة، والاتحادي الأصل، والمؤتمر الشعبي، والإصلاح، وكيانات أخرى، وذلك لإكمال علمنة السودان وإتمام المشروع الأمريكي الجديد، والذي يدعو إلى إزالة كل الشعارات الإسلامية، وكل القوانين المعطلة التي فيها رائحة أو ذكر للإسلام، بما فيها قوانين الزواج والمواريث.
فما لا يجب إغفاله أن الاستعمار لم يخرج من السودان، لأن أفكاره ما زالت محمولة عند الكثيرين، وما زالت مطبقة بواسطة العملاء، وما زال معارضون كذلك يدافعون عن هذا الفكر الاستعماري ويحملونه، لذلك فإن أمريكا التي تتسبب سياستها بالثورات هي نفسها التي تجهضها بعد أن يكون قد قدم أبناء الأمة الغالي والنفيس.
ما زالت تصريحات الحكومة تنذر بمزيد من الغلاء وضنك العيش، والابتعاد عن الحكم بما أنزل الله، برفع الدعم عن الوقود والاستمرار في طباعة العملة في مطلع كانون الثاني/يناير 2019م. ولكن يجب بوصفنا مسلمين أن نزيل سبب الضنك الذي وصلنا إليه! وهو تحكّم الاستعمار. فلا بد من نبذ الديمقراطية التي تشرع من دون الله، ونبذ العسكرية التي تشرع أيضا بالحكم الوضعي، بل لا بد أن يكون التغيير لإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، التي تطبق الإسلام، وأن تتوجه الثورة لقلع نفوذ الاستعمار وأحكامه وأفكاره وأنظمته في الاقتصاد، والحكم، والاجتماع، والقضاء، والعلاقات الخارجية، وسائر النظم، ليكون التغيير حقيقياً، ننعم فيه بأحكام الإسلام العظيم.
بقلم: الأستاذ عبد الله عبد الرحمن تنديلي
عضو مجلس ولاية السودان
رأيك في الموضوع