بلغ التآمر الدولي في الآونة الأخيرة مداه ضد ثورة الشام، وبدا واضحاً مدى تناغم الدول والمنظمات الأممية في مكرها السياسي ضد آخر قلاع الثورة في مدينة إدلب وما حولها، أملاً في إحداث خرقٍ قاتلٍ في سفينتها، لإعادة الشام مزرعة أمريكية خالصة، لا ينادَى فيها بإسقاط النظام ولا يُطالب بإعادة حكم الإسلام.
فقد تزاحمت تحركات وتصريحات مسؤولي هذه الدول، بدفع أمريكي وواجهة دعم أممية، لتسخينٍ مؤقت للأحداث ودقٍّ مصطنع لطبول الحرب، عبر تحذير النظام وحلفائه من اجتياح إدلب واستخدام الكيماوي، وذلك دفعاً للحل السياسي خطوة للأمام، من خلال إحداث حالة من الهلع والخوف عند الناس، بالتزامن مع قصف مناطقي ومحاولات قضم جزئي كمدينة جسر الشغور أو جبل التركمان في الساحل، ليقبل أهل الشام بما يملى عليهم من حلول استسلامية، ليتلو ذلك تصريحاتُ تهدئةٍ خبيثةٍ مقابِلةٍ، تمهد الطريق لجولة مكر سياسي جديدة، تقي النظام مخاطر قلب الطاولة على رأسه إن هو فكر باجتياحٍ بري كامل لإدلب يعتبره أسيادُه مقتلةً له في الظرف الراهن، لأنه يدرك قبل غيره أنه ما سيطر على الغوطة وحوران والقلمون وريف حمص بقوته ولا بضعف الثائرين، وإنما لأسباب باتت معلومة لكل ذي بصر وبصيرة.
ومثالُ ما سبق قولُ لافروف إن "التصريحات بشأن هجوم قوات أسد وروسيا على إدلب عارية عن الصحة"، فيما علق ظريف، وزير الخارجية الإيرانية، بالقول: "إن بلاده مقتنعة بأن الحل في سوريا سياسي وليس عسكرياً"، مضيفاً: "نسعى إلى الحد من التوتر والحيلولة دون المزيد من حمامات الدم في المنطقة"، وكذلك قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، مع تحذيره من أن "النزوح الجماعي للاجئين من سوريا سيكون مشكلة ليس لبلاده فقط، وإنما للاتحاد الأوروبي أيضاً"، وهذا ما يقلق ألمانيا التي هددت بشنّ عمل عسكري ضد النظام السوري "بشكل منفرد" في حال استخدم الأسلحة الكيماوية في إدلب، وذلك تحقيقاً لمكاسب سياسية يوضحها حديث وزير ألماني عن إمكانية تزويد تركيا بمبالغ معينة مقابل ضبطها لملف الهجرة واللاجئين.
وجدير بالذكر ما نشره، الأربعاء الماضي، معهد بروكينغز لأبحاث السياسة الخارجية الأمريكية: "إن اندلاع الحرب في منطقة شمال غرب سوريا، يمكن أن يكون له عواقب خطيرة على الاستقرار الإقليمي، وعلى احتمال عودة ظهور مختلف الجماعات (المتطرفة) في المستقبل"، مضيفاً أن الأمر يتطلب "تحولا واقعياً طفيفاً من 10 درجات فقط" لسياسة أمريكا في سوريا، تأخذ بعين الاعتبار أن استبدال أو إزاحة أسد لن تتم من خلال عملية جنيف. وبدلاً من ذلك، "يجب على الولايات المتحدة أن تعمل لصالح خليفة يختاره أسد إلى حد كبير، إلى جانب حكومة سورية جديدة".
وفي سياق ذلك كان اجتماع مجلس الأمن قبل أيام (بدعوة من روسيا التي آذاها طول أمد الصراع وخشيتها من تبعاته وتداعياته)، حيث اعترض على تنفيذ النظام وروسيا لعملية عسكرية ضد إدلب، خشية اجتياح بري خاسر ينقلب على النظام، بعد تيقن أمريكا من قوة نبض الثائرين وعزيمتهم، فعمدت إلى أعمال سياسية أملاً منها في إعادة إدلب إلى قبضة النظام دون خسائر عسكرية تستنزفه فوق ما هو مستنزف، بالتنسيق مع ثلاثي الإجرام، روسيا وتركيا وإيران، مع قصف النظام لمناطق معينة وتهديده بالاجتياح البري.
كما يراد من هذا الاجتماع أيضاً، زرع قناعة عند أهل الشام أنه ليس لهم من الأمر شيء، وما عليهم إلا التسليم بما يفرضه عليهم أعداؤهم، حتى الدستور، الذي قررت وفود الدول الضامنة لمسار أستانة، المتمثلة بتركيا وروسيا وإيران، خلال اجتماعها بمكتب الأمم المتحدة بجنيف، الأربعاء الماضي، تشكيل مجموعة عمل مشتركة، حول اللجنة الدستورية السورية تضم خبراء من الدول الثلاث، من أجل تسهيل المفاوضات مع الأمم المتحدة بخصوص تشكيل لجنة صياغة الدستور السورية، والتي قيل إن ثلثها من النظام وثلثاً آخر للمعارضة، والثلث الأخير لـ"المجتمع المدني"!
وإنه لمن أخطر الأدوار خبثاً بعد ما سبق، هو الدفع باتجاه وصاية تركية على ما تبقى من المناطق المحررة، لتحكم قبضتها بشكل مباشر على الأرض، بعدما كانت تسعى لتحقيق ذلك عن بعد، وذلك على مراحل، منها محاولة استنساخ تجربة مناطق درع الفرات وريف حلب الشمالي، والتحكم الفعلي بكافة مفاصل الحياة، والعمل على تشكيل نواة حقيقية لجيش وطني، وسحب السلاح من الثوار تدريجياً بأساليب شتى، ومن ثم إعادة المنطقة إلى حضن النظام، كتطبيق عملي لمخرجات أستانة، أما آخر صيحات الإجرام، فهو ما اتفق عليه المتآمرون في بيانهم الختامي في قمة طهران، في تطابق كامل مع موقف دي ميستورا الأممي، وهو تأكيدهم جميعاً على حق (الحكومة السورية) في "استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية!"، وضرورة "مكافحة الفصائل (الإرهابية)" في إدلب، والتي حدد صفاتها جون كيري بقوله في مؤتمر صحفي عقب مؤتمر فينا عام 2015م: "سنعمل على محاربة الفصائل التي تقف في وجه الحل السياسي"، فكل من لا يقف في وجه الحل السياسي هو مرضي عنه أمريكياً وبالتالي لا يطاله تصنيف (الإرهاب).
ولا تغيب عنا التعزيزات التركية للمخافر الحدودية على الجانب التركي، لضبط أي محاولات نزوح تتحسب تركيا من حدوثها حال اشتداد القصف على المدنيين، مع الدفع بتعزيزات لنقاط "خفض التصعيد" التي تتمركز فيها، كضامن لكبح الفصائل من القيام بأي عمل ضد النظام مهما اشتد إجرامه.
ولم يعد خافياً دفع تركيا وإسنادها الخلفي لسلسلة اقتتالات مجرمة بين الفصائل، وذلك لاستحالة اجتياح النظام لإدلب على وضعها الحالي وما يحويه من عقبات كأداء في وجه ما تريده أمريكا وأدواتها من حلول، ويؤجج فتنةَ الاقتتال التصنيفُ المخابراتي البغيض: (متطرف) و(معتدل)، استنزافاً للمقاتلين وسلاحهم، ودفعاً بالحاضنة الشعبية لليأس من الواقع والقبول بما يصوره لها أعداؤها على أنه أفضل الممكن.
كما أن سهام التخدير التركية المتلاحقة، والتي قد يقع بعض الناس في حبائلها، لا تقل خطراً عن صواريخ النظام وحممه، لأنه، ومن ورائه المجتمع الدولي، يتحين الفرصة المناسبة لإنهاء الثورة وإعادة أهلها إلى حظيرة الذل والبطش والجور، فكلما ازداد مفعول إبر التخدير المسمومة، كان الخطر المحدق أعظم، ودليل ذلك الزيارات المكوكية للثلاثي الروسي والتركي والإيراني، ومن ورائهم أمريكا.
وختاماً، فإن عرض مكر أعداء الله لا يعني على الإطلاق أنهم الغالبون، فمكر الله أكبر من مكرهم أجمعين، لكننا نبين لأهلنا على أرض الشام حجم الخطر ونحذرهم مما يُكاد لهم من مؤامرات وما يُطبخ في المؤتمرات فيتصرفون بناء على ذلك، ونحذرهم مرتين ممن يُسَمَّون زوراً "أصدقاء" وهم يضعون أيديهم بأيدي من يقتل المسلمين في العراق وأفغانستان بل وحتى في الشام نفسها، ونقصد تركيا أردوغان التي لن تسلم من الأذى إذا ما فرغت أمريكا من ملف الشام، وما تثبيت أمريكا لقواعدها شمال شرقي سوريا، كزنّار للجنوب التركي، إلا تحسباً لأي خطر داهم وتمهيداً لمكر قادم لن تسلم منه تركيا. علماً أنه يستبعد أن تضحي أمريكا على الأقل في الأفق المنظور بحلفائها الأكراد، وهم الذين يقدمون لها أجلّ الخدمات.
وإن معرفة الداء تقتضي الشروع الفوري بتناول الدواء، فلا حل لأهل الشام إلا بالتوكل على الباري سبحانه بعد قطع العلاقة مع الدول التي تكيد لهم وتتربص بهم الدوائر، ومن ثم اجتماعهم على مشروع خلاص يجمع شتاتهم ويوحد كلمتهم على ما يرضيه سبحانه وتعالى، فيعود التكبير ونفَس الثورة الأول من جديد، لإسقاط النظام في عقر داره وإقامة حكم الإسلام، وما ذلك على الله بعزيز.
قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾.
بقلم: الأستاذ ناصر شيخ عبد الحي
عضو لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع