كانت بداية التدخل المصري العسكري في ليبيا قد بدأت في 25 آب/أغسطس 2014م، عندما قامت الطائرات المصرية بالتنسيق مع طائرات إماراتية بشن غارات جوية ضد الكتائب الإسلامية التي تقاتل من أجل السيطرة على طرابلس، وقد أكدت تلك الأنباء صحيفة نيويورك تايمز والتي نقلت عن مسئولين أمريكيين بارزين تأكيدات بأن مصر والإمارات نفذتا سلسلتين من الغارات الجوية على مواقع للثوار في ليبيا، وذلك بعد أن فقد اللواء حفتر السيطرة على مطار طرابلس، ومن قبلها تم الاستيلاء والسيطرة على أهم قواعده في بنغازي، وفي ذلك الوقت استضافته مصر على سبيل التأمين الشخصي للعميل الأمريكي. ثم تأكد الأمر بتصريحات الناطقة باسم الخارجية الأميركية جين ساكي حين قالت: «ندرك أن الإمارات ومصر نفذتا في الأيام الأخيرة ضربات جوية في ليبيا»، أو ما صرح به الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية الأميرال جون كيربي بقوله: «إن الدولتين نفذتا تلك الضربات». ولكن ظل النظام المصري ينكر ذلك الهجوم على طول الخط ويتبرأ منه ويصف من يردد ذلك بأنه شخص ذو نوايا خبيثة.
وكان قد ألمحَ الرئيس السيسي في مؤتمر صحفيّ مشترك مع رئيس وزراء إيطاليا قبل تلك الضربات وتحديدا في 1 آب/أغسطس 2014م، لنيته بالتدخل في ليبيا بقوله: «نتابع ما يدور فى ليبيا ونحضر حساباتنا لمواجهته»، وقال إنّ مصر قادرة على حماية حدودها مع ليبيا. وفي إشارة إلى أنه تلقى تفويضًا من المصريين بمحاربة الإرهاب داخل وخارج مصر قال السيسي: «ده بيفكرنا بالتفويض اللي طلبته من المصريين قبل كده لمواجهة أي عمل إرهابي محتمل». وخلال المؤتمر، قال السيسي ردًّا على سؤال حول استعداد مصر لإمكانية استخدام طائرات ليبية استولى عليها المسلحون هناك في عمل إرهابيّ ضد مصر: «إحنا مستعدين جدًّا لأي احتمال زي ده».
لم يكن خافيًا على المتابع البسيط أن القاهرة توفر مساعدات عسكرية لقوات حفتر منذ أكثر من عام، بما في ذلك برامج تدريب لهذه القوات ومعدات عسكرية، يُعتقد أن تكلفتها تتحملها دولة الإمارات التي دأبت على هدر أموالها في محاربة توجه الأمة نحو الإسلام، والتي كشفت التسريبات الأخيرة من مكتب السيسي أنها قدمت للجيش المصري مليارات الدولارات من السيولة النقدية والمنتجات النفطية، دعما لنظام ما بعد محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين، تنفيذا للأوامر الأمريكية بالوقوف بكل قوة خلف النظام الجديد المدعوم أمريكياً.
ومن ثم تأتي مشاهد ذبح 21 مصريا قبطيا على يد تنظيم الدولة الإسلامية لتثير مشاعر غضب واستهجان في مصر، كما في المنطقة العربية والعالم، لتمكن نظام السيسي من التدخل العسكري في الجارة الليبية، ليصبح ما كان يتم بالسرّ في الأمس، ينفذ علنياً اليوم بل ويحظى بدعم شعبي غير مسبوق، بعد أن قام
تنظيم الدولة بإعطاء المبرر الذي كان يحتاجه النظام ليقوم بالتدخل بشكل سافر وعلني، ليدعم تمكين عملاء أمريكا من السيطرة على الأوضاع في ليبيا، فقام بتوجيه ضربته مباشرة بعد نشر الفيديو دون حتى أن يشغل باله بالأعداد الكبيرة من العمال المصريين في ليبيا الذين قد يكونون محل انتقام ردا على تلك الضربات. وكأن أمريكا رأت في استنساخ تجربة جرِّ الأردن لمشاركة حقيقية وفعالة في حلفها الصليبي على المسلمين في سوريا أمرا جيدا، خاصة بعد أن تم استثمار قتل تنظيم الدولة للطيار الأردني بخبث ودهاء من قبل النظام في الأردن ليظهر لشعبه وكأنه يقاتل دفاعا عن بلدهم وحفظا لأرواحهم. وبهذا يكون قد تحقق لأمريكا ما ظلت تخطط له منذ شهور من إقحام الجيش المصري في المعضلة الليبية التي استعصت على أمريكا وعميلها هناك حفتر.
وكان وزير الخارجية الأميركي جون كيري قد أوضح خلال مؤتمر صحافي مشترك في أعقاب لقائه بنظيره المصري سامح شكري في واشنطن على هامش قمة البيت الأبيض حول مكافحة التطرف في 18 شباط/فبراير الجاري، «أن الجريمة الهمجية التي ارتكبت بحق المصريين في ليبيا تشكل حافزاً إضافياً للقضاء على التنظيمات المتطرفة»، مشدداً على دور مصر الحيوي في هذا المسعى.
وما لا شك فيه أن نظام السيسي في مصر يخشى من نجاح حركات التمرد والثورة في البقاع المحيطة، بما يمكن أن ينعكس على الوضع لديه في الداخل، خاصة وأن الحراك الثوري في مصر حتى الآن قد نجح في خلق حالة من عدم الاستقرار لنظامه الذي تسلق على أكتاف ما بات يعرف بالشرعية، وبمباركة أمريكية واضحة. وأنه وإن كان من المعلوم أن النظام المصري لا يمكن أن يقوم بتلك الضربة دون أخذ الضوء الأخضر من أمريكا؛ التي تريد أن توجد لنفسها موطئ قدم في ليبيا عبر عميلها حفتر، إلا أن تلك الضربة وافقت أيضا هوى السيسي الذي يخشى من المد الإسلامي في ليبيا أن يكون عونا لاستعادة التيار الإسلامي في مصر عافيته، بعد أن قوضه السيسي إلى حد بعيد بانتهاج سياسة القمع من قتل واعتقالات عشوائية ومحاكمات غاشمة. فانتصار الثورة في ليبيا على حفتر، لا شك أن له انعكاساته على الحراك الثوري في مصر، بينما القضاء عليها يعضد ويقوي موقف السيسي المناهض للإسلاميين في مصر.
كما يبدو أن السيسي ومنذ اللحظة الأولى لتسلمه السلطة وهو يبحث عن تنامي نفوذه في المنطقة ليستنسخ نموذج عبد الناصر الذي كان اليد التي تضرب بها أمريكا خصومها في المنطقة، وهذا ما يشير إليه الدور الذي بحثت عنه مصر ووهبته لها أمريكا في مبادرة وقف إطلاق النار بين حماس وكيان يهود.
بقي القول أن هذا الحدث الكارثي الذي يُعدّ وصمة عار في جبين الجيش المصري الذي لم يحرك ساكنا تجاه ما يجري من قتل وتشريد لإخواننا في غزة، بل كان النظام وسيطا غير نزيه بين طرفين لا ينبغي له أن يكون وسيطا بينهما بل طرفا فاعلا؛ إذ الأمر يتعلق بعقيدة قتالية ظل الجيش المصري متبنيا لها لعقود؛ وهي أن كيان يهود هو العدو. بل أكثر من ذلك لم يحرك ساكنا عندما قتل ذلك الكيان الخبيث نحو خمسة من أفراد الأمن المصري على الحدود في 18 آب/أغسطس 2011م.
رأيك في الموضوع