لو أن ما حدث في مصر في الأيام الأخيرة من اغتيال للنائب العام هشام بركات، ومهاجمة خمسة مواقع عسكرية للجيش في سيناء وقتل أكثر من 70 عسكريا، لو أن ذلك حدث في أي بلد في العالم يحترم نفسه لاستقالت الحكومة بكاملها أو لأُقيل وزيرا الداخلية والدفاع، أو على الأقل لانبرت أقلام في الصحافة المكتوبة ولشُحذت ألسنة في محطات التلفزة تطالب بمحاسبة المسئولين عن ذلك التقصير الأمني خاصة وأن النظام الحالي ما فتئ يردد أن أولويته القصوى هي "الحرب على الإرهاب"، بل وادعى في أكثر من مناسبة أنه قضى على أكثر من 90 بالمائة من الإرهاب، بل قال أكثر من مرة أن سيناء أصبحت خالية من الإرهاب. لكن أيّاً من هذا لم يحدث فلا الحكومة استقالت ولا استقال وزير الدفاع المحصن لثماني سنوات، ولا حس ولا خبر عن وزير الداخلية رجل أمن الدولة الذي أتى به النظام ليحفظ أمن الدولة، ولا رأينا ولا سمعنا أحدا من رجالات الإعلام أصحاب الرواتب العالية التي تجاوزت الملايين يطالب بشيء من ذلك، كل ما رأيناه منهم ولولةً ونحيباً ولطماً على اللبن المسكوب، وإلقاء باللائمة على الإخوان المسلمين والإرهاب الأسود اللعين، وتردادا مملولا مكررا لكلمة "اغضب يا ريس"، كأنه لم يغضب من قبل، أو "اضرب يا ريس بيد من حديد"، كأنه لم يضرب من قبل وسالت على يديه الدماء في بر مصر كلها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا.
هناك ثلاثة احتمالات رئيسة حول هوية من يقف وراء هذا التفجير الذي نفذ عن بعد وبمنتهى الدقة. وأول المتهمين هو النظام المصري ذاته، فالسيسي يسعى إلى تقديم مبرر لتنفيذ حكم الإعدام الذي صدر بحق مرسي وقيادات في جماعة الإخوان، أو كبار الجنرالات من داخل المؤسسة العسكرية ممن يؤيدون أطرافا منافسة ضمن نفس جوقة النظام القديم مثل أحمد شفيق الذي بات الصراع بينه وبين السيسي مكشوفا وواضحا. علما بأنَّ سائق بركات لم يمسه سوء. وهناك إشاعات متضاربة حول بركات ذاته، فقد ذكر شاهد عيان أن بركات كان قادرا على السير والخروج من السيارة دون مساعدة من أحد، وأنه أدخل نفسه إلى مستشفى مدني قبل أن ينقل للعلاج على أيدي أطباء عسكريين، وهناك ارتباك وعدم وضوح بشأن عدد السيارات التي استخدمت في التفجير. كما أن هناك جهات أخرى قد تكون مسؤولة عن العملية مثل تنظيم الدولة، أو القاعدة، أو ربما مجموعة ثورية يسارية، وهناك فعلا مجموعة اسمها "العقاب الثوري" قامت ببعض العمليات ضد الشرطة هنا وهناك.
وليس السؤال المطروح الآن من قام باغتيال النائب العام، بل السؤال الأهم هو من المستفيد من اغتياله؟!، لقد تحدث الرئيس السيسي في جنازة النائب العام عن العدالة الناجزة، وعن تخفيف درجات التقاضي وعن قوانين استثنائية وعن تنفيذ أحكام الإعدام، وكأن من يقتل في القاهرة ومن يهاجم في سيناء يخشى قوانينهم أو يخاف من تنفيذ حكم الإعدام فيه بسرعة، أو كأن تنفيذ أحكام الإعدام مرهون بقرار سياسي وليس بانتهاء درجات التقاضي. لقد بدأ النظام مباشرة وبعد مقتل النائب العام بالتصديق على قانون الكيانات الإرهابية، وبعدها بساعات قام بتصفية بعض خصومه السياسيين عندما قام بقتل 13 من قيادات جماعة الإخوان المسلمين في مدينة 6 أكتوبر، مدعيا أنهم قاموا بالتصدي للقوات التي حاصرتهم، والغريب أنهم ماتوا جميعا ولم يتم إصابة ولو عنصر واحد من القوات المهاجمة، مما يؤكد رواية جماعة الإخوان التي تتهم السلطة بتصفية تلك القيادات بعد اعتقالهم وتجميعهم في مكان واحد لتقوم بقتلهم بدم بارد.
قد يقول بعض المراقبين والمحللين أن السيسي قد فشل فشلا ذريعا في إحداث استقرار أمني، أو انتعاش اقتصادي، ويأتونك بالكثير من الشواهد والدلائل على قولهم هذا، ولكن هذا الكلام ربما يكون صحيحا لو كان هذا بالفعل هو ما ينشده السيسي ونظامه، لكن الواقع يؤكد خلاف ذلك وكأن ما يجري اليوم في الواقع المصري هو عين ما يريده السيسي لهذا البلد. ففي الفترة التي سبقت 30 حزيران/يونيو 2013 وبرغم فشل نظام محمد مرسي على كل الأصعدة الاقتصادية والسياسية والأمنية، إلا أننا لم نكن نرى اغتيالات سياسية ولا عمليات عسكرية نوعية ضد الجيش المصري باستثناء عملية رفح الأولى، ورغم أن السيسي قد قال في أحد اللقاءات المصورة مع بعض القادة والضباط أن التعامل الأمني في سيناء لا ينفع، مع أنه من السهولة بمكان إخلاء مناطق بأكملها كالشيخ زويد ومن ثم دكها بالمدفعية، ولكن هذا سيسبب ثأرا ضد الجيش من قبل الأهالي في سيناء، بالرغم من ذلك فقد نفذ السيسي كل ما حذر منه، بل تجاوزه بإخلاء يكاد يكون كاملا لمدينة رفح، مما يوفر حاضنة شعبية للجماعات القتالية في سيناء التي سينضم لها كل شاب فقد بيته أو عزيزا عليه دون جريرة قام بها سوى أن النظام يعمل بكل ما لديه من قوة لحماية أمن كيان يهود عدو الناس الأول في مصر كلها وفي سيناء على وجه الخصوص. وهؤلاء المنضمون الجدد لا يفهمون أنهم يقاتلون شبابا مصريا لم يذهب لهم باختياره، بل بأوامر من قيادته، وكانت النتيجة أن الشباب المجندين بدأوا يشعرون بأن لهم هم أيضا ثأرا عند أهل سيناء... هذه مأساة حقيقية، وهي أشبه بالمأساة "التراجيديا" اليونانية عندما يتقاتل الأبطال لأسباب غير مقنعة، لكن طالما بدأ القتال ودارت عجلته فلا مجال للسؤال عن دوافعه. فمن يا ترى سيكون المستفيد من هذا التقاتل بين مكونات الشعب المصري؟! إنهم ولا شك أعداء الأمة الإسلامية أمريكا والغرب كله ومعهم ربيبتهم دولة يهود.
إن الحياة السياسية بمصر أضحت في حالة من الجمود، فلم يتم تحديد موعد إجراء الانتخابات البرلمانية، التي تم تقديم الوعود بإجرائها قبل عام، كما دفع النظام لتمرير قوانين جديدة أشد قمعا، مثل قانون مكافحة الإرهاب، وأدخل تعديلات جديدة ستسرع وتيرة إصدار الأحكام الجنائية، بما فيها الإعدامات. وقامت السلطة بتصعيد حربها ضد الإخوان المسلمين ورافضى حكم العسكر، بعد اغتيال السلطات لـ 13 من قيادات الإخوان المسلمين في "لجنة رعاية أسر الشهداء" بـ6 أكتوبر. بينما يضحك أعداء الأمة ملء أفواههم وهم يرون مصر تسقط في هوة سحيقة لا يعلم مداها إلا الله، فقد صرح سفير بريطانيا في مصر جون كاسون بعد اجتماعه بوزير الداخلية المصري مجدي عبد الغفار بعد اغتيال النائب العام وبحضور السفير الأمريكي قائلا "أشاطر الوزير تعهده بتعزيز الشراكة بين مصر والمملكة المتحدة، مؤكدا على أن الأمن أساس لا استغناء عنه من أجل مصر التي نرغب جميعا في رؤيتها أكثر أمنا ورخاء وديمقراطية. وهذا يتطلب اتخاذ إجراءات أمنية أكثر صرامة، ومواجهة الأيديولوجيا المتطرفة، وإنجاز تقدم في مجال الاقتصاد والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي تعتبر أساسية من أجل تحقيق أمن بعيد المدى". بينما قال نتنياهو: "إسرائيل ومصر ودول أخرى كثيرة في الشرق الأوسط والعالم تقف في خندق واحد لمحاربة الإرهاب الإسلامي المتشدد". نعم هي هوة سحيقة تسقط فيها مصر نحو عسكرة الصراع بين النظام والمعارضة ليعيد الغرب تكرار النموذج الليبي أو السوري في مصر، فمن الواضح أنه ليس على عجلة من أمره في إحداث استقرار في البلاد طالما القاتل والمقتول من أبناء أمة الإسلام. ولن يمنع مصر من السقوط في تلك الهوة السحيقة سوى استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الحقة على منهاج النبوة التي تؤمّن الخائف وتنصف المظلوم وترفع يد الكافر المستعمر عن بلادنا وتبطل كيد الكائدين ومكر الماكرين.
رأيك في الموضوع