"رأي الإمام يرفع الخلاف" هي قاعدة من القواعد الشرعية المتعلقة بالأحكام السلطانية التي جرى تغييبها من ثقافة المسلمين ومناهجهم التعليمية بشكل متعمد بعد هدم الخلافة لإظهار الإسلام دينا كهنوتيا.
وكذلك غيبت قواعد أخرى وأحكام عديدة كنظام الحكم ونظام الاقتصاد، وكذلك تم تغييب قواعد أخرى مثل للإمام وحده حق تبني الأحكام، فله أن يتبنى من الأحكام بقدر ما يستجد من الحوادث، وأمر الإمام نافذ ظاهراً وباطنا.
ولا يمكن الوقوف على أهمية هذه القواعد وعظم أثرها على حياة المسلمين إلا بالوقوف على طبيعة الأحكام الشرعية وكذلك الوقوف على مفهوم السياسة في الإسلام.
وعند رجوعنا إلى مفهوم السياسة في الإسلام نجد بأن السياسة هي رعاية شؤون الناس بالأحكام الشرعية تطبقها الدولة بصفتها كياناً تنفيذياً، وتمارسها الأمة بالمراقبة والمحاسبة بصفتها صاحبة السلطان وهي الأصيلة في التكليف بتطبيق الشرع، والإمام ينوب عنها في ذلك.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ وقال: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾.
وقد عرفت الإمامة بأنها (حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي) وحمل كافة الناس يعني إلزامهم بأحكام الشرع بجعل الأحكام قوانين ملزمة تنظم علاقات المجتمع داخليا وخارجيا، وبهذا يكون الخروج من الإسلام السياسي هو تنازل عن جل الأحكام الشرعية بما فيها من أحكام قطعية.
وعند عودتنا للأحكام الشرعية نجدها قسمين:
الأول: أحكام قطعية مأخوذة من أدلة قطعية الثبوت والدلالة، لا خلاف فيها عند الفقهاء.
الثاني: أحكام ظنية محل اجتهاد وقع فيها الخلاف قديما وحديثا ولن يتوقف، ويستحيل جمع المسلمين على رأي واحد من جهة الاجتهاد والفكر لأسباب عديدة، وستبقى المذاهب الإسلامية وتتعدد.
وبما أن الدولة هي الكيان التنفيذي وعليها رعاية الناس بأحكام الشرع، فقد لزمها أن تتبنى أحكاما شرعية تسنها على شكل دستور وقوانين لتحدد شكل الدولة وصلاحية كل جهاز فيه وتبين ما هو حق للناس وما هو واجب عليهم لتنظم علاقاتهم وترفع خصوماتهم، فلا توجد دولة على المذاهب الأربعة. وبغير ذلك تكون الفوضى والتنازع وتشرذم الأمة وذهاب ريحها.
فالخلافة كنظام حكم جعل حق تبني الأحكام للخليفة وهو السبيل الوحيد لتوحيد الأمة وجمع كلمتها وحراسة دينها من عبث العابثين، فالخلافة رئاسة عامة للمسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها. قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾، وقال e: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»، ولا يكون ذلك إلا لعظم أمر الخلافة ووحدة المسلمين.
وعند وقوع الخصومة بين الناس لا بد من تدخل القانون لحسم النزاع ورفع الخصومة فلا يترك الناس لاجتهاد فقهائهم، ومثاله إذا وقع الخلاف بين رجل وزوجته فذهبت الزوجة لفقيه حنبلي فقضى بوقوع الطلاق وعدم رجعتها وذهب الزوج إلى فقيه شافعي فقضى برجعتها فلا يوجد سبيل لفض النزاع إلا بتبني الخليفة، فأمر الإمام يرفع الخلاف. وهكذا في سائر علاقات المسلمين في الداخل وعلاقاتهم مع الأمم الأخرى.
وإنه لما يدمي القلب أن نرى فرقة المسلمين في كيانات سياسية هزيلة رسم كافر حدودها وكتب دساتيرها وحدد لها أعلامها وأعيادها، وسخرها لخدمة مشاريعه ولحربه على دين الله.
ولقد طال العبث الكثير من أحكام الشرع ومنها ركن الصيام، فرأينا المسلمين متفرقين في الصيام هذا صائم وهذا مفطر ولا يفصلهما إلا أمتار!
رأينا مسلمين يصومون ثمانية وعشرين يوما وآخرين يصومون واحدا وثلاثين، رأينا وحدة مطالع في عام واختلاف مطالع في عام آخر لاختلاف الحكام واتفاقهم، رأينا اختلاف مطالع في رمضان ووحدتها في الحج، رأينا وحدة مطالع مع تباعد المسافات واختلاف مطالع مع قرب المسافات على الحدود، رأينا وحدة مطالع مع الوحدة السياسية وتعدد مطالع مع التقسيم.
هذا العبث في دين الله لم يكن إلا لفرقة المسلمين في كيانات سياسية وغياب خلافتهم، وهذا مخالفة لعقيدة الإسلام ولشرع الله.
لقد أعان على هذا العبث علماء أكلوا الدنيا بالدين وأنزلوا الأحكام وفتاوى السابقين على غير واقعها، فالحديبية ليست كامب ديفيد، والاستعانة بصفوان بن أمية ليست كالاستعانة بجيوش أمريكا وروسيا وأساطيل الكفر، وتعدد المطلع بين الشام والمغرب الإفريقي أو الأندلسي ليس كتعدد المطالع بين مدينتين حدوديتين.
أيها المسلمون:
لا يوحد كلمتكم ويلم شعثكم وينصر مظلومكم ويصون دينكم وعبادتكم ويطهر مقدساتكم إلا خلافتكم وإمامكم. قال e: «الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به». فالإمام العادل قوام كل مائل وصلاح كل فاسد وقصد كل جائر ونصرة كل مظلوم.
فشدوا العزم لتقيموا دولة الإسلام، الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، حافظة دينكم ودمكم وعرضكم وموحدة بلادكم ومبعث عزكم وشرفكم، فلمثل هذا فليعمل العاملون.
بقلم: سعيد رضوان أبو عواد
رأيك في الموضوع