لم يكن القتال في حسابات الدول من أجل القتال مفصولا عن غايته. إن الذي يحدد الغاية من القتال ويحدد وجهته وما يتخلله من أعمال هو المبدأ الذي تحمله الدولة فهو الذي يحدد وجهة النظر في الحياة ويحدد القيم والمقاييس التي تضبط سير القتال وما يتخلله من أعمال.
وعند دراستنا للمبدأ الرأسمالي نجد أنه قام على عقيدة فصل الدين عن الحياة وبذلك استبعد كل القيم الخلقية والإنسانية والروحية ولم يعترف إلا بالنفعية المادية، فكانت الغاية تبرر الوسيلة، وكانت طريقته في حمل مبدئه الاستعمار، فخاض حروبه على هذا الأساس.
وتجسيدا لنظرته تلك، انطلق كما ينطلق الوحش من عقاله فارتكب أبشع الجرائم في البلاد التي ابتليت بناره، ولا يزال يرتكب الفظائع التي تأنف منها وحوش الغاب، فسفك الدماء وهتك الأعراض وتفنن في أساليب القتل والتعذيب، وفي ابتكار أسلحة تفني الشعوب، فكان من الطبيعي أن يرى الناس القنابل النووية تلقى على كبريات المدن اليابانية، وأن يستخدم الكيماوي وأن تقطع الرؤوس وتغتصب النساء ويحرق الأطفال أحياء ويساق الناس عبيدا في مستعمرات الرأسماليين.
وكان من الطبيعي أن يتآمر الرأسماليون على شعوبهم فيفجروا مدنهم ويقتلوا شعوبهم وجنودهم ليصنعوا ذريعة عدوان على غيرهم، خدمة لمصالح أصحاب رأس المال، فكانت الرأسمالية خزان شرور ابتلي العالم بوحشيتها.
عودة إلى الإسلام وسير فتوحاته وتعامله مع الشعوب نرى عظمة سياسته الحربية وصيانتها للنفس البشرية وحفظها لكرامة الإنسان.
لقد انطلقت جيوش الفتح الإسلامي من الحجاز بعدد محدود وعدة متواضعة، فكان أول عمل يقومون به عند لقاء العدو هو دعوته إلى إحدى ثلاث:
١- أن يُسْلِموا فإن أسلموا فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين لا فرق بين عمر بن الخطاب ومزارع في أرض فارس في الحقوق المدنية والسياسية، قال تعالى: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.
٢- أن يدفعوا الجزية ويدخلوا في سلطان الإسلام ويخضعوا لأحكامه فيصبحوا أهل ذمة للمسلمين ومن رعايا الدولة لهم ما للمسلمين من إنصاف وعليهم ما على المسلمين من الانتصاف ولا يُكرهون على ترك دينهم، قال r: «من آذى ذميا فقد آذاني»، ومن أراد مفارقة بلاد الإسلام بلغوه المكان الذي يريد ويأمن فيه على نفسه وماله وعرضه، قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾
٣- أن يُقاتَلوا حتى يُزال سلطانهم بقهر جيوشهم وإسقاط حكمهم.
وما أن تُفتح مدينة حتى يباشر المسلمون ببناء المساجد لدعوة الناس إلى الإسلام وتعليم من آمن منهم دين الله، وتعيين وال لهم وتزويده بما يلزم لحماية البلاد ورعاية شؤون الناس وتأمين مصالحهم.
فكان من الطبيعي أن تواجه جيوش الفتح عندما تريد متابعة فتوحاتها مشكلة تعويض النقص في صفوفها نتيجة لما يفقد في المعارك ونتيجة لترك جزء من الجيش ليس بالقليل في المدن المفتوحة لما تقتضيه السيطرة على المدن وتصريف شؤون الناس.
كيف تعوض الجيوش هذا النقص في صفوفها، وخاصة إذا علمنا أن الإسلام لا يُلزِم غير المسلمين بالقتال في صفوف جيشه؟
وبالرجوع إلى سير الفتوحات يستوقفنا أمران:
* الأول: أن عدد الجيوش كان يتضاعف ولا ينقص.
* الثاني: عدم حصول ثورات شعبية على الفاتحين كما يحدث مع جيوش الغزاة على مر التاريخ ولا يزال.
فما هو السر في عدم نشوء الثورات الشعبية؟
إن السبب في ذلك يرجع إلى استراتيجية الإسلام في التعامل مع الشعوب والدول القائمة، والتي جعلت السياسة الخارجية تسير على صعيدين:
الأول: موقف الإسلام من الدول التي تعتبر العقبة المادية التي تحول بين الإسلام وبين الشعوب، فيجب الإطاحة بها ليُخلى بين الشعوب والإسلام، وهذا ميدانه الصراع العسكري.
الثاني: الشعوب التي يحمل الإسلام إليها رسالة هدى ورحمة، وهذه تُدعى إلى عقيدة الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة وبالمجادلة بالتي هي أحسن، وببيان صدق العقيدة الإسلامية وموافقتها لفطرة الإنسان وإقناعها لعقله، فيدخل الشخص في الإسلام مقتنعا بعقيدته سعيدا بعدله، وهذا ميدانه الصراع الفكري، فدخل الناس في دين الله أفواجا.
وهذا ما يفسر:
١- انتشار الإسلام بسرعة عظيمة وفي فترة قياسية شرقا وغربا حتى بلغ الصين ووقف على أسوار القسطنطينية وتغلغل في قلب إفريقيا.
٢- ومضاعفة أعداد الجيوش بحيث يتحول أبناء البلاد المفتوحة إلى قادة للجيوش وفاتحين.
٣- وتمكن الإسلام من نفوس الناس وتغلغله في الشعوب، وفي كثير من الأحيان كان الناس يدخلون في الإسلام دون قتال، ويبقى الإسلام متجذرا فيهم حتى بعد انحسار دولة الإسلام عنهم، وتنكيل الدول بهم كما حصل في الأندلس والبلقان والهند ولا يزال يحدث في بورما ومالي والصين وفي البلاد الإسلامية التابعة للاتحاد الروسي.
خلاصة القول إن الإسلام بنى سياسته الخارجية على صعيدين:
الأول: صعيد الجهاد والقتال بتوجيه السلاح إلى الجيوش وحصر الصراع العسكري في هذا الميدان، وفي تحصيل كل ما يلزم لكسب المعركة من تحصيل القوة المادية وبناء سياسة التصنيع في الدولة على الصناعة العسكرية وامتلاك كل ما يردع العدو ويرهبه.
الثاني: الصراع الفكري بالدعوة لعقيدة الإسلام بالحجة والبرهان لإيجاد القناعة عند المدعوِّين، ومنع استخدام السلاح في وجه أصحاب الديانات الأخرى لإكراههم على الإسلام، قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾، وقال تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾
ولقد كانت وصية رسول الله r المبعوث للناس كافة رحمة وهدى للعالمين للفاتحين أن ادعوا الناس للإسلام أولا ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا شيخا كبيرا ولا عابدا في صومعته ولا من اعتزل قتالكم.
أيها المسلمون
إن نقل الصراع العسكري من صراع مع الجيوش إلى صراع مع الناس المدنيين له خطر عظيم يوجد القطيعة بين الإسلام والناس الذين هم محل التكليف بتبليغهم الرسالة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.
أيها المسلمون
إن عدوكم يريد نقل الصراع عن صعيده ليدخلكم في صراع مع الشعوب فيوجد القطيعة بينكم وبين الناس فيحول بينكم وبين تبليغ الناس دين الله، ويجعل من الشعوب عدوا لكم وسندا له في قتالكم، فلا تعينوه على أنفسكم فتخالفوا أمر ربكم.
أيها المسلمون
سيروا على هدي نبيكم واعلموا لمن يُوجَّه السلاح، فأنتم رسل رحمة وهداية، فخوضوا جهادكم لعدوكم على صعيده الذي حدده دينكم.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك المخلصين لدينك وامددهم بمدد من عندك وجند من جندك.
بقلم: سعيد رضوان أبو عواد
رأيك في الموضوع