غيرت ثورة يناير الكثير لدى أبناء الكنانة، فقد كسرت حاجز الخوف الذي قيدهم لعقود طويلة يحكمهم فيها حكام عملاء للغرب الكافر، الذي جعل السيادة فيهم لمبدئه الرأسمالي وسلبهم حقهم وإرادتهم وسلطانهم، فلا ينصبون حاكمهم إلا بشكل صوري يضمن وصول من يرتضيه الغرب من عملائه لحكم البلاد راعيا لمصالح الغرب لا مصلحة أهل الكنانة والأمة بعمومها، ناهبا حقوقهم ممتهنا لكرامتهم، مضيقا على كل الأفراد والحركات التي تسعى للتغيير، حتى استيأس أهل الكنانة وظن ظانهم أنه لا أمل في التغيير في الأجيال الحالية، حتى قيل أن أكثر المتفائلين قبل يناير كان يرى أن الذي سيخلف مبارك في حكم مصر لن يكون إلا ولده جمال الذي كان يعد لتوريثه الحكم على غرار ما تم مع بشار أسد، إلى أن كانت الهزة التي رجت بلاد الإسلام في تونس وتبعتها مصر واليمن وليبيا ثم الشام، الهزة التي رأينا عملاء الغرب يتساقطون كالذباب على إثرها وتبين للجميع أنهم نمور من ورق وأن الأمة أقوى منهم متى تحققت فيها ولديها إرادة التغيير، إلا أن الغرب حرص ومنذ اللحظة الأولى على إبقاء ثورة الكنانة تحديدا بلا قيادة فعلية أو قيادة فكرية وسعى إلى دس عملائه لركوب موجتها كما حدث ورأينا، وساعد أمريكا صاحبة السيادة في مصر على ذلك اتصالها المباشر مع قادة الجيش المصري وارتباط رجال المال والأعمال والإعلام بها فكان التحول الذي رأيناه بالتخلي عن مبارك والتحول إلى قادة العسكر المرتبطين بأمريكا والطامعين في السلطة، والذين أعدتهم أمريكا مسبقا للعب تلك الأدوار، إلا أن هذه اللعبة لم تنطلِ على أهل الكنانة الذين طالبوا بإسقاط حكم العسكر وسمعنا هتافاتهم المدوية التي تخرج من حناجر صادقة تهتف بسقوط العملاء الخونة واحدا تلو الآخر، إلا أن خلو الساحة من قيادة فكرية وقيادة فعلية واعية ساعد أمريكا على نيل مرادها والالتفاف حول الثورة ومطالبها والتعامل مع بعض الحركات الفاعلة فيها، بل والاتفاق مع هذه الحركات سواء أكانت حركات إسلامية أم علمانية على تحقيق بعض المكاسب الخاصة كتولي بعض المناصب والحصول على بعض الفرص مقابل بقاء النظام والمبدأ الرأسمالي حاكما مهيمنا مسيطرا، وإن تغيرت وجوه منفذيه ولو اكتست بالعمائم وتزينت باللحى، فكان ما رأينا من تسليم السلطة في مصر وبعد مداولات إلى الإخوان بقيادة مرسي ثم إلصاق كل فشل حققوه بالإسلام الذي لم يحكم ولم يختبر في الأساس، ثم الانقلاب عليهم مدعين أنه انقلاب على الإسلام وعلى الدولة "الدينية" التي كان مرسي والإخوان يسعون لإقامتها، كل هذا حدث رغم أن قادة الإخوان كانوا يخاطبون الغرب خطابا خانعا يظهر فيه الركون والميل والسعي لنيل رضا الغرب وتأييده ودعمه، ظهر هذا في تأكيدهم في مواضع كثيرة على الاعتراف بكافة الاتفاقيات الدولية والسعي للحفاظ عليها ومنها بالطبع معاهدة كامب ديفيد مع كيان يهود ناهيك عن اعترافهم بها كدولة جارة، بل والأكثر من ذلك أنهم تملصوا من وعودهم لمؤيديهم بتطبيق الشريعة وأصبح ما بين مبرر لعدم تطبيقها أو مدع أنها مطبقة بالفعل كما صرح مرسي بأنها مطبقة من زمن مبارك ومن خلال دستوره، بما في ذلك من تدليس وتمييع لقضايا الأمة وخدمة للغرب الكافر، ورغم هذا كله انقلب عليهم الغرب ونكل بهم وبأهل الكنانة واستباح دماءهم وأعراضهم كما رأينا ونرى، وأصبحت لغة الرصاص واستباحة الدماء هي لغة خطاب نظام العسكر ما بعد الانقلاب مع كل معارضيهم، والإسلاميون منهم بخاصة، لكونهم هم فقط من يسعون إلى إزالة النظام كله لكونهم يحملون مبدأ آخر وإن لم يدركوا هذا، بخلاف العلمانيين فلا عقيدة عندهم وهم مطية الغرب وصنيعته أيضا فلا خوف منهم.
والآن وبعد مرور أكثر من عامين على مرور هذا الانقلاب وما تلاه من فض لاعتصامي رابعة والنهضة وما صاحبهما من مجازر ومذابح يشيب لها الولدان، وبعد ما ادعاه العسكر من سعيهم لتحقيق عيش آمن رغيد لأهل الكنانة فهل تحقق لأهل الكنانة رغد عيش أو عادت لهم كرامة؟! وهل نما اقتصاد الكنانة وازدهر؟! وهل تحقق الأمن الموعود الذي طالما تحدث عنه السيسي وزمرته؟
إن ما يحدث في مصر ما بعد الانقلاب وما نراه من سياسات أمنية واقتصادية تعطي العسكر ومن لف لفيفهم كل الصلاحيات والامتيازات جعلت مصر على فوهة بركان على وشك الانفجار في أي لحظة فما نراه من ثكنات متنقلة وتحويل أقسام الشرطة إلى قلاع حقيقية تذكرنا بقوله تعالى ﴿وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله﴾ وما صدر من قوانين وتشريعات تطلق يد الشرطة والجيش في القتل والتنكيل دونما حساب ولا عقاب ولا رقابة فقط على الهوية والشبهة والتهمة جاهزة مسبقا (الإرهاب)، ثم ما رأيناه من تغول للجيش اقتصاديا في الكنانة وتحوله إلى مؤسسة اقتصادية عملاقة تلتقم كل ما تطاله من أعمال داخل السوق المصري، فبخلاف محطات الوقود والمطاعم والفنادق رأينا اللحوم والمنتجات الغذائية ثم رأينا الهيئة الهندسية وهي تلتقم المشاريع العملاقة بالإسناد المباشر تبعا لما سبق من قرارات، ثم رأينا الوهم العملاق المسمى بقناة السويس الجديدة والتي لا تعدو كونها تفريعة صغيرة ليست على مستوى ما سبقها من تفريعات لم يُصنع لها تلك الضجة ولم ينفق عليها مثل هذا الكم من أموال أهل الكنانة.
إن المتابع لكل تلك السياسات التي ينتهجها عسكر أمريكا ليدرك أنهم يسعون إلى أحد أمرين؛ فإما إخضاع أهل الكنانة خضوعا كاملا وإعادتهم لا إلى ما قبل ثورة يناير بل إلى ما هو أسوأ منها بكثير، أو تحويل مصر إلى سوريا أخرى وإشعالها بما يلتهم الأخضر فيها واليابس، وإن الذي مكن العسكر وأعطاهم الفرصة ومنحهم القدرة على فعل ذلك هو الركون للغرب الكافر والتوجه إليه بالخطاب تلو الخطاب وتطمينه وإعطاؤه من الضمانات ما يشاء، وأكثر رأينا تصريحات البعض قبل تولي الحكم وهم يعلنون احترامهم لاتفاقية كامب ديفيد وغيرها من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ثم رأينا رفع علم الاستعمار علم سايكس بيكو والقسم على المحافظة على الديمقراطية واستقلالية مصر وسيادتها في مخالفات صريحة للشرع ثم رأينا الحكم بغير ما أنزل الله وما تلاه من انقلاب، ورغم كل هذا ورغم أن الغرب أدار ظهره لهم رأيناهم على منصة رابعة وإلى الآن يخاطبون الغرب بلغته ومبدئه متخلين عن مبدأ الإسلام، فرأيناهم يعلنون تمسكهم بشرعية الديمقراطية التي أوردتهم المهالك بدلا من أن يكفروا بها كما كفر بها سادتهم وبدلا من رفع راية الإسلام راية رسول الله ظلوا يرفعون راية الاستعمار التي ترمز إلى تقسيم الأمة وتفتيتها، كل هذا طمأن الغرب وجعله يطلق يد السيسي قتلا وحرقا واغتصابا واعتقالا لكل من يتفوه بكلمة حق من أهل الكنانة، لكل من يرفع صوته معترضا ولو بشطر كلمة، فإذا نجح في عقاب أهل الكنانة وكبح جماحهم فقد أثمر عمله، وإن فشل فبديله جاهز وموجود ويقدم كل التنازلات المطلوبة وأكثر.
إلا أن المعادلة صعبة فهي ليست بين طرفين اثنين فقط بل هناك طرف ثالث وربما أطراف؛ فهناك أهل الكنانة الثائرون الراغبون في استعادة كرامتهم المسلوبة وثرواتهم المنهوبة والعيش الرغيد، وهؤلاء هم سواد الناس وعامتهم وهم الطرف الأقوى في تلك المعادلة، وهؤلاء بدأ صبرهم ينفد بعد عامين من خداع العسكر وبيعهم الوهم، ولن يحقق طموحهم برامج الاقتصاد الرأسمالي ولا هيمنة العسكر على اقتصاد الكنانة، ولا يعالج فقرهم المدقع عربات الخضار ولا العمل على التكتك كما أشار رئيس الوزراء، كما لن يعيد لهم كرامتهم ما نراه من قلاع تشيد هنا وهناك وعودة للدولة البوليسية بأبشع أشكالها، بل الذي يحقق لهم كل هذا وأكثر هو تطبيق الإسلام كاملا شاملا في دولة خلافة على منهاج النبوة، تعيد الكرامة المسلوبة وتحفظ الدماء والأعراض وتقر العدل في الأرض وتنشر الأمن والأمان بلا قلاع ولا حصون، بل بإحقاق الحق والعدل، وتعيد ما نهبه الغرب من ثروات وتحفظ على الأمة ما في يدها وتعطي كل ذي حق حقه، هذا ما يحتاجه أهل الكنانة والأمة بعمومها، دولة لا تجبي ولا تمنع ولا تأخذ بل ترعى وتعطي وتمنح، دولة على منهاج النبوة؛ ولهذا سيظل أهل الكنانة كما نراهم في حالة الثورة وإن بقي العسكر على رأسهم سنوات حتى يتسلم الأمر المخلصون الواعون القادرون على قيادة أهل الكنانة وتوجيههم نحو الخلافة على منهاج النبوة تنهي ما هم فيه من اختلاف وتجمعهم على قلب رجل واحد وتصرع بهم الرأسمالية ورجالها وتعيد لمصر مكانتها في حفظ الإسلام والذود عنه وعن شرعه ودولته.
بقلم: حامد عبد الغفور
رأيك في الموضوع