ما إن انطلقت حرب غزة، وبدأ كيان يهود في صب حقده وإجرامه، وبدأت أساطيل الغرب في التحرك، حتى انطلق الكلام في الوقت ذاته عن اليوم التالي لغزة، بل وصار يجري الحديث خلال ذلك عن تغييرات كبرى، منها التهجير في غزة وحتى في الضفة، وبينما اتفق كيان يهود وداعموه وخاصة أمريكا على استمرار الحرب، ظهر الخلاف بينهما إلى العلن على ما يجب أن تفضي إليه الحرب، ليدل ذلك على أن الحرب على غزة لم تكن ردة فعل عسكرية وأمنية فقط، وإنما هي ضمن مشروع سياسي للأطراف المذكورة، وقوده أهل فلسطين والدماء الزكية في غزة.
تعمل أمريكا على استغلال زخم الحرب في إحياء وتنفيذ مشروعها القديم بحل الدولتين، ولكن في صيغة مرنة لما يسمى بـ"الدولة الفلسطينية" ترضي كيان يهود وتحفظ أمنهم، بينما يصر حكام كيان يهود على رفض قيام دولة فلسطينية، وعلى تنفيذ مشروعهم بابتلاع كل الأرض، من البحر إلى النهر، وعلى تصور لدى "اليمين" الطاغي فيه بمحاولة لتفريغ تلك الأرض من سكانها من أهل فلسطين بالتهجير، ولو بعد حين.
وهكذا، فالأرض المباركة يتقاسمها عمليا مشروعان فقط، مدارهما والثابت فيهما كيان يهود وبقاؤه ومستقبله، وأمنه واستقراره، والباقي هوامش، وهناك طرفان يحتكران الفعل فيها، والتصرف بمصيرها ومصير أهلها، وهما الكيان والأمريكان، أما الأنظمة العربية، بل كافة الأنظمة في بلاد المسلمين فإنه لا مشروع لها ولا فعل، إلا مشروع الأمريكان، وجهودها تصب في ذلك المشروع فقط، فهي أدوات لا أكثر، وحتى التطبيع، فإنه ثمرة بيد أمريكا تعد بها الكيان لتضبط تحركاته، بحيث يتكلم بلينكن وزير الخارجية الأمريكي بدلا عن هؤلاء الحكام، فالتابع لا مشروع له إلا مشروع سيده ومتبوعه!
في مقابل هذه المشاريع، فإن للأمة مشروعاً، ولكنه مشروع قد تم تغييبه، كما يتم تغييب الأمة نفسها الآن عما يُفعل بأرضها وأبنائها، وقدسها ومقدساتها، وهي تموت كمداً وتتميز غيظا، وقد تم تغييب هذا المشروع، ليس الآن فقط، وإنما لعشرات السنين، حيث لا يذكر في مبادرات الحلول ولا في أروقة المفاوضات ولا بين الدول، كما لا يطرح في الإعلام، وعندما كان يعرضه المخلصون كانوا يوصفون بانعدام الواقعية وأنهم خياليون! وهو مشروع لا تتبناه الأنظمة العربية، ولا حتى ما يسمى زورا بـ"منظمة التحرير الفلسطينية"، فقد ألقموا جميعا مشروع أمريكا بحل الدولتين، بل وصاروا من أدوات تنفيذه، وحصرت مرجعيات الحلول بالدول الكبرى ومؤسساتها الجائرة وقوانينها الدولية الظالمة.
إن مشروع الأمة هذا يقوم على تحرير فلسطين كاملة، وإزالة هذا الكيان اللقيط المصطنع إزالة كاملة، وإنما قلنا "مشروع الأمة" لأنه الحل الذي يقتضيه الإسلام، وتفرضه أحكامه على الأمة بوصفها أمة إسلامية ولا خيار لها سواه، وبوصف قضية فلسطين المحتلة قضية للأمة الإسلامية، لا قضية قطرية خاصة بأهل فلسطين.
لقد حدد الإسلام واقع أرض الإسراء واقعا شرعيا، بأنها أرض خراجية، وحق للأمة الإسلامية، وفي الوقت ذاته لا يجوز التنازل عن هذا الحق أو التفريط فيه من أيٍّ كان، وخلاف ذلك من حلول وتسويات فهي باطلة لا قيمة لها، وكذلك حدد الإجراء تجاه احتلال هذه الأرض في حالة العدوان عليها وعلى أهلها وفي حالة احتلالها، بأنه الجهاد في سبيل الله ردا عنها، ونصرة لأهلها، وسعيا لتحريرها، تستنفر لأجل ذلك القوى والطاقات، وتجيش الجيوش وتسخر الموارد، حتى لو تطلب ذلك أن تتحرك الأمة بكاملها.
ونقول كذلك أنه مشروع الأمة، ليس فقط لأنه الحل الوحيد في شرع الله، والمسطر بين دفتي المصحف، ولكن لأن هذا الحل، وهو التحرير الكامل لفلسطين، هو الحل الموجود في قلوب المسلمين كافة، والذي يتوق الملايين منهم للجهاد في سبيل الله لأجله، والمركوز في أعماقهم كذلك، بوعد من الله عز وجل، بزوال هذا الكيان الفاسد وتتبير علوه.
غير أن "مشروع الأمة" وإن كان موجودا نظريا، وكامن لدى أبنائها فعليا ولكنه حتى الآن غائب عمليا، وذلك لغياب الجهة التنفيذية التي تقوم عليه وتتحرك لأجله، وهي الدولة الإسلامية، التي تحول هذا الحل إلى واقع، والفريضة إلى فعل، وفي الحقيقة فإن إعادة الدولة الإسلامية بإقامة الخلافة، هو مشروع الأمة الأكبر، الذي ترتبط به كل الحلول والقضايا ومنها تحرير فلسطين، وبدونه لا حل ولا مشروع. ولقد جاءت الأحداث الأخيرة في فلسطين لتبين مدى حالة الأمة من حيث العجز والشلل والغيبوبة في ظل هذه الأنظمة المتآمرة، التابعة للاستعمار، وتؤكد حاجة الأمة لهذا المشروع الأكبر المتمثل في الدولة الإسلامية، التي تحرر الأمة من سطوة الاستعمار، وتحرر طاقاتها الكامنة، وجيوشها المقيدة، وإرادتها المسلوبة، ودون ذلك فستبقى الأمة في حالة من "المعس" والعجز، تعيش في "المصيبة" وتنتظر المصيبة التالية، في زمان قادم أو في مكان آخر!
كما أكدت الأحداث الأخيرة كذلك أن هذا الحل، وهو تحرير فلسطين كاملة وإزالة الكيان الفاسد، هو أقرب بكثير من المشاريع الغربية، رغم ما تحتويه من ظلم وخبث وهلاك، والمطروحة منذ عشرات السنين "كحل الدولتين" دون طائل أو حتى تنفيذ، وذلك لما ظهر من وهن هذا الكيان وخواره وزيف قوته، أما الأقرب من كليهما، فهو زوال الحكام العملاء وأنظمة الطواغيت، وذلك إذا تحركت الأمة وقواها حركة صحيحة نحو إزالتهم، فهؤلاء ليست لهم جذور في الأمة، عروشهم باتت خاوية وكراسيهم آيلة للسقوط، وبخلاف ما يصور الظالمون دائما، فإنه يجب أن تتصور الأمة دائما قول الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾.
بقلم: الأستاذ يوسف أبو زر
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع