نقلت وسائل الإعلام في هذا الشهر، تقارير وتصريحات متعددة لسياسيين وإعلاميين عن حقيقة الخلافات والمناكفات السياسية بين الحكومة اليهودية برئاسة بنيامين نتنياهو، وبين الحكومة الأمريكية بزعامة بايدن. فقد ذكر موقع أكسيوس: "بأن الرئيس الأمريكي جو بايدن أغلق الهاتف بوجه رئيس الوزراء (الإسرائيلي) بنيامين نتنياهو خلال آخر مكالمة بينهما، في دليل جديد على توسّع الخلاف بينهما؛ جراء الحرب (الإسرائيلية) المستمرة على قطاع غزة منذ مئة يوم"، وذكر الموقع نفسه: "أنه قبل أن يغلق بايدن الهاتف رفض نتنياهو طلبه؛ بأن تفرج (إسرائيل) عن عائدات الضرائب الفلسطينية التي تحتجزها". وذكر أكسيوس نقلا عن مسؤول أمريكي أن وزير الخارجية أنتوني بلينكن أوضح لنتنياهو ومجلس وزراء الحرب (الإسرائيلي) خلال زيارته الأخيرة إلى تل أبيب؛ أن خطة (إسرائيل) لليوم التالي للحرب "حلم لا يمكن تحقيقه". وذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت اليهودية في 19/1/2024: "أن من وصفتهم بالمقربين من الرئيس الأمريكي يعتقدون أن نتنياهو يطيل أمد الحرب لأسباب سياسية وشخصية". وذكرت الصحيفة ذاتها "أن مقربين من الرئيس الأمريكي جو بايدن نصحوه بالإعلان عن عدم ثقته برئيس الوزراء (الإسرائيلي) بنيامين نتنياهو بسبب تعمده إطالة الحرب في غزة لأسباب شخصية، لكن الرئيس بايدن ما زال مترددا إزاء مثل هذه الخطوة".
فهل هذه الخلافات حقيقية من جانب نتنياهو، أم أنها تدخل في دائرة الابتزاز السياسي لحركة حماس، وللقائمين على الوساطات بينهم أمثال قطر ومصر؟ وما هي أسباب هذه المناكفات السياسية والعناد عند حكومة نتنياهو، وما هي مآلاتها؟ وهل ستبقى عقبة كأداء أمام مشاريع أمريكا، أم أنها تستطيع تطويعها بدبلوماسيتها وحنكتها السياسية؟ وقبل أن نجيب على هذه الأسئلة يجب أن نقف على بعض الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع:
1- إن أمن كيان يهود ضمن منظومة المنطقة المحيطة هو ضمن أمن الدول الكبرى على رأسها أمريكا بالدرجة الأولى. ولا يستطيع كيان يهود إرساء الأمن والأمان، ولا التعايش ضمن منظومة المنطقة إلا برعايةٍ من دول الغرب، وبحماية مباشرة منها. وليس أدل على هذه الحقيقة من أن إنشاء هذا الكيان كان برعاية الإنجليز في البداية، ثم برعاية الدول في منظومة الأمم المتحدة على رأسها أمريكا. وقامت الدول الكبرى كذلك برعاية كل معاهدات السلام والحماية مع الدول المحيطة بهذا الكيان. وفي هذه الحرب قامت معظم الدول الكبرى بتقديم الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي لكيان يهود.
2- هناك مصالح لأمريكا في المنطقة ترعاها وتسخر دول المنطقة لرعايتها، ومن ضمنها كيان يهود. فخدمة أمريكا لكيان يهود هو ضمن دائرة المنافع والمصالح المشتركة. وإذا تعارضت مصالح أمريكا مع مصلحة لليهود فإن أمريكا تقدم مصلحتها. وإذا وقف اليهود عقبة في طريق ذلك فإن أمريكا تعمل أولا على تذليلها بالطرق السياسية والدبلوماسية، وإلا فإنها تمارس الضغوطات عليها؛ حتى لو اضطرت لاستعمال بعض عملائها في ذلك، كما جرى في أكتوبر سنة 73.
3- هناك مشاريع تحضّر أمريكا وتمهد المنطقة سياسيا وأمنيا لإقامتها من أجل ترسيخ هيمنتها العالمية، واستمرار تفردها الدولي. وهذه المشاريع موجهة بالدرجة الأولى ضد الصين، ومنها بل أبرزها المشاريع المتعلقة بالممرات المائية والبرية بين الشرق والغرب، ومن أهدافها أنها تقف في وجه المشروع الذي بدأت الصين في وضع الدراسات والإعدادات له منذ سنة 2019 حيث عقدت قمة "طرق الحرير الجديدة" التي تسمى الحزام والطريق التي افتتحها الرئيس الصيني شي جين بينغ في 27/4/2019، ومنها أيضا أنها تفرض على الصين أن تكون تحت سيادتها في هذه الممرات؛ حيث قامت أمريكا بطرح مشروع مماثل من أجل استباق الصين إلى هذا المشروع في قمة العشرين في نيودلهي في 9/9/2023. كما أنها تفرض على دول أوروبا أن تظل تحت جناحها اقتصاديا من خلال سيطرتها على هذه الممرات. والحقيقة أن هذه الممرات تحتاج إلى استقرار سياسي في المنطقة، ولا تستطيع أمريكا البدء بها إلا إذا أوجدت الاستقرار والتطبيع ضمن الحلول السياسية المطروحة في موضوع حل الدولتين، وإيجاد الشرق الأوسط الجديد ضمن الرؤية الأمريكية.
4- هناك أزمة حقيقية في كيان يهود تأخذ أبعاداً سياسية عدة، منها أزمة تتعلق بنتنياهو نفسه، وملاحقاته القضائية والفساد. ومنها أزمة دستورية تتعلق بالمحكمة العليا، وفرض قوانين جديدة. ومنها أزمة بين أطراف وشركاء الائتلاف خاصة عند بعض الأحزاب من اليمين المتطرف، وعلى رأسهم وزيرا المالية بتسلئيل سموتريتش، والأمن القومي إيتمار بن غفير. وهناك أيضا أزمة تتعلق بثقافة الشعب اليهودي ككل، من حيث تمسكهم بما يسمى بـ(أرض إسرائيل) الكبرى، وعدم التنازل عنها. وهناك أزمة تتعلق بالشقاق الحاصل بين المعارضة على رأسها لابيد وبين حكومة نتنياهو. وكل هذه الأزمات تنعكس على الحرب الدائرة على غزة. فنتنياهو له مصلحة في استمرار الحرب للتملص من الملاحقات القضائية. والمعارضة تستغل هذه الحرب في اتجاه آخر هو إثبات فشل نتنياهو وحكومته في إدارتها للحرب، وما قبل الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر.
وبعد استعراض هذه المقدمات نخلص إلى أن المناكفات والخلافات بين الإدارة الأمريكية، وبين حكومة يهود هي حقيقية وجدية، وتحاول أمريكا بكل السبل تطويع هذه الحكومة للسير ضمن برنامج أمريكا في إدارة أزمة الحرب على غزة، أي توجيه هذه الحرب عن طريق الوسطاء القطريين والمصريين والسلطة الفلسطينية؛ من أجل خدمة أهدافها السياسية في المنطقة، وعلى رأسها إيجاد الاستقرار السياسي عن طريق حلّ الدولتين، وإكمال مشاريع التطبيع، خاصة مع السعودية. والحقيقة أن العقبة الكأداء أمام تنفيذ هذه المشاريع هي حكومة نتنياهو. ومن أجل تذليل هذه العقبة فإن أمريكا بدأت بسياسة الإغراءات والعروض السخية أمام هذه الحكومة، ومن ذلك ما ذكره بايدن في 19/1/2024: "هناك عدة أشكال للدول، ولا يشترط أن يكون هناك جيش للدولة الفلسطينية. فهناك عدة أشكال لدول في الأمم المتحدة"، ومنها أيضا الدعم السخي ماليا لكيان يهود حيث بلغ في هذه الحرب حوالي 14 مليار دولار في المجالات العسكرية.
ومن ذلك أيضا ضمان أمن الحدود من جهة غزة عن طريق الوسطاء القطريين والمصريين، وبالتعهد أن غزة لن تكون تحت سلطة حماس مستقبلا، ولن يكون هناك تهديد عسكري لحدود الكيان. وقد عرضت أمريكا على نتنياهو ضمانات تتعلق بالملاحقات القضائية عن طريق تشكيل حكومة موسعة مع لابيد وأحزاب أخرى؛ للخروج من الملاحقات أولا، والبقاء في الحكم وللتخلص من الأحزاب المتطرفة من حوله ثانيا. فهل ستخضع حكومة نتنياهو لهذه الإغراءات السياسية والاقتصادية، أم أنها ستمضي في عنادها ومناكفاتها؟ وما الذي يمكن أن تفعله أمريكا أمام هذا الوضع الخطير، الذي يهدد أمن المنطقة بأكملها إذا استمر على هذا الحال، واستمرت جرائم اليهود في غزة والضفة؟
الحقيقة أن حكومة بايدن قد بدأ صبرها ينفد فبدأت باستخدام وسائل جديدة من الضغوطات الدبلوماسية التي يمكن أن تتطور إلى عسكرية! ومن ذلك محكمة العدل الدولية وقراراتها. ومنها أيضا زيادة الضغوطات الداخلية وتفعيلها عن طريق أحزاب المعارضة التي تميل إلى أمريكا. وربما وصل الأمر إلى استخدام وسائل أخرى إذا فشلت هذه الضغوطات. فإلى أي مدى ستصل هذه الخلافات وهذه المناكفات والمناكفات المضادة؟
إن الأيام القادمة كفيلة بالإجابة عن هذه التساؤلات، ولكن المهم هو أن المنطقة بأكملها على براميل من البارود توشك أن تنفجر، وكيان يهود يعيش خلافات عميقة ليس من السهل تطويعها أو السيطرة عليها، خاصة الثقافة اليهودية تجاه ما يسمى بـ(الأرض الموعودة)... على كل حال الفساد العريض الذي يفعله اليهود سيقرّبهم من نهايتهم بإذن الله تعالى، وعنادهم وصلفهم وتمسكهم بأرض المسرى والأقصى أيضا سيكون وبالاً عليهم، فنسأله تعالى أن يتحقق الوعد الإلهي بزوال كيان يهود، وزوال شروره. قال تعالى: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴾.
رأيك في الموضوع