بات مُلاحظاً لدى الكثير من المُتخصّصين في الحقل السياسي تخبط زعماء كيان يهود، وفقدان قدرتهم على اتخاذ القرارات السياسية المُناسبة في الأوقات الحرجة، وافتقادهم للأطروحات السياسية الواقعية، وعدم تجاوبهم مع المُقترحات المُختلفة التي تُقدّم لهم، وتجمدهم حول شعارات سياسية صمّاء تجاوزتها الأحداث المفصلية، وعجزهم عن إدراك المُتغيّرات السياسية الجديدة الناشئة القطعية، وبطء التجاوب معها.
فما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 كان نقطة تحوّل فارقة في مصير كيان يهود وحاضره ومُستقبله، وكان هزّةً عنيفة أطاحت بكبريائه، وضربة مُوجعة أفقدته صوابه، وشلّت بسببها قدراته السياسية.
فأصبح نتنياهو يقارن دولته المسخ بأمريكا بوصفها دولةً عظمى، ويُطالب ليس فقط بتدمير البنى العسكرية في قطاع غزة وحسب، بل صار يُطالب أيضاً بتغيير طريقة التفكير لدى المسلمين في غزة، فيصبحون موالين فكرياً وسياسياً وعسكرياً لكيان يهود، كما أصبح اليابانيون والألمان من قبل مُوالين لأمريكا فكرياً وسياسياً وعسكرياً بعد الحرب العالمية الثانية! وبلغت به العجرفة لدرجة أن يفكّر بتنصيب هيئة محلية من سكان غزة يختارها جيشه لإدارة قطاع غزة بإشراف ورقابة دولته، مُستبعداً حتى أخلص شركائه القابعين في السلطة الفلسطينية التابعة له أصلاً، والتي ما وُجدت إلا من أجل خدمة دولته.
لقد عمل نتنياهو جاهداً على تهجير جميع سكان قطاع غزة قسراً إلى سيناء، فإذا ما عجز عن تنفيذ خطته تلك طرح فكرة التهجير الطوعي للسكان بالتعاون مع دول في أمريكا اللاتينية وكندا وأستراليا وأفريقيا.
إنّ الاهداف التي وضعتها حكومة نتنياهو عالية السقف، ولا يستطيع جيشها تنفيذها في أي حال، وقد أكّد رئيس وزراء كيان يهود السابق إيهود باراك صعوبة تحقيقها فقال: "إنّ الجيش حقّق إنجازات في قطاع غزة، لكنّه بعيد عن تحقيق أهداف الحرب" وأضاف: "إنّ هجوم 7 أكتوبر هو الأخطر في تاريخنا، وحمل إذلالا وعدم كفاءة وخللا بأجهزتنا" وأكّد أنّ: "الاعتقاد بإمكانية حث الفلسطينيين في غزة على الهجرة الطوعية هو حلم يقظة".
قام نتنياهو بتضييق الخناق على أهل غزة في كل سُبُل العيش، فمارس عليهم سياسات التجويع والتعطيش والتدمير المُمنهج للمُستشفيات والمراكز الصحية وأماكن السكنى والإيواء، ومُكّن بمساعدة السيسي طاغية مصر من التحكّم بكل ما يدخل إلى القطاع من إمدادات، ضارباً عرض الحائط بكل ما يسمّونه بقوانين حقوق الإنسان، بل واستخفّ بأي معنى من معاني الإنسانية في التعامل مع أهل غزة بوصفهم من البشر، فحاول أنْ يمنع الناس من العيش في بلداتهم، فقصفهم ودمّر مساكنهم ولوّث بيئتهم لتُصبح غير صالحة للعيش، فعل ذلك كله بحجة مُحاربة الإرهاب، ليحملهم على الرحيل قسراً أو طوعاً.
وقام بكل ما قام به من قتلٍ وتنكيلٍ وتدميرٍ وارتكابٍ لجميع صنوف الجرائم الوحشية مُتكئاً على حماية أمريكا والغرب لكيانه من المُحاسبة، ومُتمتّعاً في ارتكابه لكل هذه الفظائع بغطاء من الشرعية الدولية التي وفّرتها له الدول العظمى، علماً بأنّ 74% من قتلى سكان غزة هم من النساء والأطفال.
وتابع نتنياهو في تفكيره الأمني القاصر هذا، وفي مُعالجته البالية لحرب غزة ليس فقط السياسيون في حكومته، بل وفي المُعارضة أيضاً في داخل دولته، وانجرّت كذلك مُعظم وسائل الإعلام في دولته، وتبعها معظم الباحثين والمحلّلين فأصبحوا جميعاً أسرى لهذا التفكير العقيم، لا تجد فيهم مُفكراً أو سياسياً يملك عقلية سياسية وازنة.
إنّ هول الصدمة التي ألمّت بكيان يهود قد مسّت قدرات السياسيين الإدراكية لديهم، فلم يستوعبوا ضخامة الحدث، ولم يلتفتوا إلى نصائح أمريكا لهم، وظلّ تفكيرهم ضيّقاً محدوداً لا يتجاوز ما ألِفوه من مُعالجات أمنية قديمة لا تحفظ إلا أمن كيانهم ووجودهم، ولا تأبه لأمن ووجود غيرهم، ولا تفهم ما استجدّ من ظروف ومُعطيات تستوجب طريقة تفكير جديدة، وتتعاطى مع الأحداث بعقلية إبداعية.
وبعد أنْ تلقت النخب الحاكمة والفاعلة في كيان يهود الصدمة الأولى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 بدأوا يستشعرون صدمةً ثانية تلوح أمام ناظريهم، وهذه الصدمة الثانية تمثّلت في الفشل الذريع الذي لحق بهم لعدم قدرتهم على تحقيق أي إنجاز عسكري ذي قيمة، فبعد انقضاء قرابة الثلاثة أشهر على مرور الصدمة الأولى جاءتهم هذه الصدمة الثانية ليدركوا هزال قوتهم، وهشاشة كيانهم، وتعاظم قوة المُقاومة التي لم يكونوا يتصورون يوماً أنْ تكون بهذا الحجم وبتلك النوعية، فأبهرتهم وصعقتهم، وأدركوا مُتأخرين عجزهم عن هزيمتها بالرغم من وجود ترسانة ضخمة لديهم من الأسلحة المُتطورة، وبالرغم من وجود جيش جرّار لديهم، وبالرغم من توفر سيل من الإمدادات الأمريكية التي لا تنقطع تحطّ في مطاراتهم وموانئهم والتي بلغت أكثر من مائتين وثلاثين طائرة وعشرين سفينة ضخمة في غضون شهرين ونصف.
إنّ كيان يهود بفقدان زعمائه للعقلية السياسية المُتطوّرة قد بدأ يخسر مكانته ويفقد بريقه، وكلما تعثّر في عمليته العسكرية أكثر فقد دعم أولياء نعمته، وانزلق في أوحال غزة، وضاع في أنفاقها.
إنّ صلابة المُقاومة وصمودها وتكبيدها جيش يهود خسائر كبيرة يومياً، وصبر أهل غزة على مرارة العيش وثباتهم في أرضهم بالرغم من التضحيات الجسام التي يتكبّدونها، وبالرغم من خذلان حكام العرب والمسلمين عن نصرتهم، إنّ هذين العاملين تحديداً هما سر هزيمة جيش كيان يهود، ولعلهما يكونان مفتاح انتصار الأمّة، وتحريك الشعوب الإسلامية ضد حكامهم وطواغيتهم، وبعبارةٍ أخرى هما الشرارة التي ربّما تكون مُقدّمة من مُقدمات اندلاع ثورات شعبية عارمة جديدة ضد الأنظمة العميلة فتُسقطها، وتأتي على أنقاضها الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع