وجه عضو مجلس السيادة، الفريق ياسر العطا، انتقادات لاذعة لدولة الإمارات العربية المتحدة، متهما إياها بتوفير الإمداد العسكري لقوات الدعم السريع (سودان تريبيون، 28/11/2023م).
لقد أثارت تصريحات الفريق ياسر العطا ضد القيادة السياسية في الإمارات وتشاد الجدل في الأوساط السياسية والإعلامية، فضلا عن الأوساط المحلية المحترقة بأوار الحرب ولهيبها، ويعد تصريح العطا وهو مساعد القائد العام للجيش السوداني، الذي غادر يوم 27/11/2023م مقر سلاح المهندسين الواقع بوسط أم درمان بعد أن ظل موجودا فيه منذ بدء الحرب في نيسان/أبريل، يعد الأول من نوعه يصدر من مسؤول حكومي ضد الإمارات حيال الحرب التي يشهدها السودان.
وقد كان هجوم العطا قوياً وصل إلى قوله: "أنا أعرف منظمة إرهابية وإجرامية لكن دولة تكون مافيا أول مرة أسمع بها.. الإمارات دولة تحب الخراب وتسير على خطا الشر". ولم يكن هجومه على الإمارات فحسب، بل طال حتى القيادة السياسية في تشاد بقوله: "نحن نحترم الشعب التشادي وهو شعب شقيق تربطنا معه أواصر دم ودين ولغة، لكن في داخله بعض العملاء المرتزقة والخونة للشعوب الأفريقية وهم عملاء الاستعمار الحديث".
هناك من تفاعل مع هذه التصريحات إيجابا واستبشر بها خيرا واصفا إياها بالشجاعة في ظل هذه الظروف، ومنهم من رآها منافية للأعراف الدبلوماسية. وبعضهم تعجب من توقيتها وجرأتها. لكن لم يثر الحديث حول سبب الهجوم على الإمارات وتشاد، فلماذا لم يهاجم الجنرال العطا أمريكا مثلا، وهي رأس الشر ومصدر الداء والوباء؟!
ويزول العجب إذا وضحت القرائن والأحوال والخلفيات لهذه التصريحات، وربطت بالوعي السياسي الذي هو النظرة إلى الأحداث من زاوية خاصة، وربطها بالواقع المحلي والدولي.
فكل من يدرك الواقع السياسي السوداني، وارتباطاته، يصل إلى حقيقة جلية وواضحة، وهي أن هذه التصريحات تعبر عن حدة الصراع الدولي الاستعماري الأوروبي الأمريكي على النفوذ في السودان، فالصراع بين أمريكا وأوروبا (بريطانيا) في السودان عبر عملائهم، وصل إلى مراحل قذرة، فها هم يزهقون أرواح البشر ويحرقون الشجر والحجر ولا يبالون بما يصيب أهل السودان من نزوح وقتل وتشريد ونهب واغتصاب.
فليس من الصعوبة بمكان أن يكتشف أحدهم عمالة نظام الحكم في تشاد لفرنسا، التي قال وزير خارجيتها دومنيك دوفلبان في بداية حرب دارفور: "إن فرنسا تستطيع إيقاف حرب دارفور إذا أعطيت امتيازات في النفط السوداني"، ولا يشعر قادة تشاد بالحرج أو كتم عمالتهم لفرنسا!
أما الإمارات، العميل المخضرم لبريطانيا فعمالتها لها شواهد ومعالم، والكل يعلم علاقة قوى الحرية والتغيير التي كانت ترعاها السفارة البريطانية بشكل كامل بالإمارات. فقد بسط الإنجليز نفوذهم على الإمارات عام 1892 باسم معاهدة الحماية حيث منحت لبريطانيا تولي شؤون الدفاع والعلاقات الخارجية، وفي العام 1971م أعلن عن تشكيل دولة من سبع إمارات، كما أسس الإنجليز مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 1981م، وشكلت قوات درع الجزيرة المشتركة عام 1982 لحماية أنظمتها، والإمارات أحد أعضائها.
وعند زيارة رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي لدول الخليج 2017م قالت "إن أمن دول الخليج من أمن بريطانيا"، وهو تهديد لأمريكا عندما زادت ضغوطاتها على قطر والإمارات. (جريدة الراية 18/7/2018). أوعزت بريطانيا للإمارات بالسيطرة على جنوب اليمن ما جعل عبد الملك الحوثي يقول بعد سقوط عدن بيد الإمارات عام 2015م إنها تسعى لإعادة استعمار بريطانيا للجنوب. (جريدة الراية 18/7/2018).
وجاء في البيان المشترك بين المملكة المتحدة ودولة الإمارات، بعنوان شراكة من أجل المستقبل بتاريخ 17/9/2021: "واتفق الجانبان على إنشاء شراكة تقوم على ركيزتين أساسيتين وهما: خلق الازدهار المستدام ومعالجة القضايا العالمية، والقضايا الإقليمية والتمويل غير المشروع والتعليم والأمن"... "كما اتفقا على التعاون في المناطق ذات الاهتمام المشترك، بما في ذلك منطقة القرن الأفريقي لتعزيز الأولويات المشتركة للأمن والاستقرار...".
إذن تصريحات الجنرال العطا لا تنفك عن تصريحات السفير البريطاني جايلز ليفر ضد الجيش يوم 29/6/2021م في الفيديو الذي أعدته السفارة البريطانية محذرا الجيش من التعرض لتظاهرات 30 حزيران/يونيو التي دعت لها قوى الحرية والتغيير. ولا عن خطاب حمدوك في 21/6/2021م الذي سماه "مبادرة وطنية" لمواجهة "قضايا الانتقال" لهيكلة المؤسسة الأمنية والعسكرية، وتبني عقيدة عسكرية جديدة...الخ، ولكي تؤول الشركات التابعة للمؤسسة العسكرية لوزارة المالية.. هذا الخطاب الذي بعده كان انقلاب تشرين الأول/أكتوبر 2021م.
إنه من المؤكد أن تصريحات الجنرال العطا لا تقرأ بعيدا عن علاقات قادة الجيش بالقائم بالأعمال الأمريكي، أو الملحق العسكري بالسفارة الأمريكية، أو بمساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية مولي في أو جيفري فيلتمان المبعوث الأمريكي ولا باتصالات وزراء الخارجية الأمريكان طوال فترة حكم المجلس العسكري أو سيطرة قادة الجيش على الحكم في السودان.
هذه التصريحات كذلك لا تقرأ بعيدا عن احتكار أمريكا لمنبر جدة وتسويفها للمفاوضات، وإطالة أمدها بشكل مقزز لمنع الوصول إلى حل سريع لإيقاف الحرب حتى تضمن تحقيق أجندتها في البلاد بكسر عظم عملاء بريطانيا، والقضاء على تأثيرهم السياسي والإعلامي وضرب مراكز نفوذهم. وكذا تدخل المبعوثين الأمريكيين، والقائم بأعمال سفارتهم ثم السفير، وعلاقتهم بقادة الجيش وقائد الدعم السريع كانت وما زالت واضحة، وتنفيذ هؤلاء القادة الأجندة الأمريكية بشكل سافر... فكان من الطبيعي أن تتصادم التصريحات حسب موالاة كل طرف للدولة التي يخدم أجندتها ويتماهى مع مصالحها.
فمن ذا الذي لم يقرأ كتاب الصحفي الأمريكي مايكل وولف "نار وغضب في البيت الأبيض" الذي ينقل عن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قوله عندما وصل محمد بن سلمان إلى ولاية العهد في السعودية، حيث قال "لقد أوصلنا رجلنا إلى القمة في السعودية". وكيف أوعزت أمريكا لعميلها التدخل في اليمن لضرب نفوذ بريطانيا فيه، تحقيقا لمصالحها وإيجاد موطئ قدم لها في يمن الحكمة؟! وها هي الإمارات تقوم بالدور نفسه تنفيذا لأجندة الدولة العجوز بريطانيا.
إن تحكم أمريكا في السودان عبر بعض قادة الجيش، ثم قادة الدعم السريع هو أمر مؤلم، وسيناريو متكرر، أوصل البلاد إلى الدماء والحروب والتمزيق، كما في سيناريو حرب الجنوب، وها هو السيناريو نفسه يتكرر بألم في حرب نيسان/أبريل 2023م. فقد كان قرنق عميلا أمريكياً وكذلك البشير الذي اعترف بذلك مرارا وتكرارا.
ثم إن كل متابع يعلم أن مثلث أمريكا اللعين الماكر في السودان يقوم على: إقصاء الدين عن حياة الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتمزيق البلاد بالفيدرالية وتقرير المصير والحكم الذاتي، ونهب الثروات باسم المستثمر الأجنبي. ولن تستطيع أمريكا تنفيذ هذه الأجندة القذرة إلا بواسطة عملائها من أبناء البلاد.
ولن يتوقف هذا السيناريو المؤلم إلا بدولة مبدئية تقيم الإسلام وتطبق شرعه، تخلف النبي ﷺ في إقامة الدين وسياسة الدنيا؛ خلافة راشدة على منهاج النبوة. أما الدول الوطنية الوظيفية فهي إحدى أدوات المستعمر في مواصلة تنفيذ سيناريو الذل والهوان الذي يعيشه أهل السودان. فهلا انتبه أهل السودان لمشروع الخلاص الحقيقي بالإسلام، وهلا أعطى أهل القوة والمنعة النصرة لحزب التحرير الرائد في هذا العمل العظيم ليقيم شرع الله تعالى بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة؟
* مساعد الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع