لم تترك عملية "طوفان الأقصى" يوم السبت في جنوب الأرض المباركة مجالا للشك بأن بقاء فلسطين إلى الآن محتلة هو قرار سياسي فقط، بالحفاظ على كيان يهود، وبقرار من الأنظمة بعدم التحرك لانعدام الإرادة والضلوع في العمالة، تلك الأنظمة التي طالما كانت تغذي وتبرر قرارها بوهم كبير في ضعف الأمة وقوة عدوها، مع أنه ليس في الأمة ضعف إلا وجودهم وليس في العدو الضعيف الواهن الجبان قوة إلا من وجودهم.
أما ما يتعلق بحقيقة هذا الكيان الجبان فيكفي منه صورة أحداث يوم السبت؛ فشل استخباراتي وأمني لمن تم تصويرهم أنهم من أقوى أجهزة المخابرات عالميا، وأنهم الجيش الذي لا يغلب، وقد دخل المجاهدون المستوطنات وكأنه لا جيش فيها، فكانت أسلحتهم صماء ودباباتهم خرساء، ليتأكد المؤكد من أن هذا الكيان ساقط أمنيا وعسكريا ومعنويا، لا عمق فيه لمن يعرفون الحروب، ولا يملك إلا قوة نارية قابلة للنفاد، وقد طلب نتنياهو السبت تمويلا من بايدن لقبته الحديدية التي فرغت دون جدوى، فحروبهم تغذيها التكنولوجيا والمال ولكن دون رغبة حقيقية في القتال ولا عقيدة شجاعة، وخسائرهم البشرية لا يطيقونها، ومعنوياتهم في الحضيض، ولأنهم ليسوا أهل الأرض، فإنه ما لم تتوفر لهم فيها حياة أكثر رفاهية من بلدانهم الأصلية فإنهم لن يبقوا فيها، فهم أحرص الناس على حياة، ولذلك فإن الهروب هو ديدنهم عند كل حدث، بل إن اضطراب هذا الكيان وسهولة انتهائه عند المعركة الكبرى سيفاجئ الكثيرين، وستصيب الكثيرين الدهشة وربما الندم لطول المعاناة مع سهولة زوال هذا الكيان.
وأما قوة الأمة، فإنه لا يلزم الكثير للحديث عنها، بل يختزله ما قام به بضع مئات بالأمس، يقال ألفاً، وإن كانت بعض التقارير قد ذكرت أن عدد المقتحمين ما يقارب 250 مجاهداً، ولكنهم أبدعوا في الوسائل بما طالته أيديهم، وتفوقوا بالعقيدة والشجاعة، فاستطاعوا أن يبهتوا جيش العدو الذي لا يقهر، وأن يربكوه إلى درجة الشلل لساعات عدة، فكيف والأمة هائلة العدة والعدد، والمال والرجال، تحيط بكيان يهود من كل جانب، في جوفه أهل فلسطين، وفيها جيوش تنتظر أن تتحرك وأسود تتربص، وملايين من الناس قابلون للغليان بل سريعة الغليان؟!
إن الهزائم لهذا الكيان ليست جديدة، فهي تتكرر عند كل مواجهة ولو صغيرة أو جزئية مع المسلمين ولكنها تكفي للحكم عليه وعلى قدرته على البقاء، وقابليته لسرعة التفكك، فهو ليس إلا جموع أشتات تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.
وبالمقابل فإن وقائع البطولة في الأمة كثيرة، حتى ولو كانت جزئية أو تقوم بالمعركة فيها فئة، ولكنها عظيمة في أدائها؛ لقد حارب الأفغان دولا عظمى وأجبروها على الرحيل، ومرغت المقاومة العراقية أنف الاحتلال الأمريكي، ولقد لبث إقليم قرا باغ أكثر من ثلاثين سنة تحت الاحتلال الأرمني ليحرره الأذريون في بضع ساعات، وفي تشرين الأول/أكتوبر من عام 1973 كما في تشرين الأول/أكتوبر يوم السبت من عام 2023 فاجأ الأبطال كيان يهود بمفاجآت أصابته بالذهول والصعقة، ما يدل دلالة واضحة على أن الأمة إذا خاضت معركة فإن أداءها مبهر، يخرق المعايير ويفوق الحسابات، ويتجاوز الحدود إلا بما كانت تحده به أنظمة التآمر.
ولم تكن المشكلة يوما في قوتنا وقوتهم، بل إن معيار القياس مختل، فقوتهم هي وهمٌ حرصت على وجوده الأنظمة العميلة، وضعفنا هو وهمٌ وكذب حرصت عليه الأنظمة العميلة أيضا، كما أنها حرصت على وضع المقارنة بين أهل فلسطين العزل من السلاح وبين جيش كيان يهود، وأخرجوا الأمة وجيوشها وقواها من تلك الحسابات بل ومن التصورات أيضا، وبالتالي سحبوا من المعركة أقوى أسلحتها وأكبر أدواتها.
إن من أخطر ما يرعب الأنظمة القائمة في بلاد المسلمين، هو تلك الأحداث والمواقف البطولية المزلزلة، التي تعيد الحيوية في الأمة فتتحرك فيها مشاعر العزة والوحدة، والأمل بقرب التحرير، مع ما يرافق كل ذلك من إدراك عند الناس بأن حكامهم هم العائق الأكبر، وبالتالي فإن الأنظمة لا ترى في تلك الأحداث إلا تصدعاً واهتزازاً لكياناتها تماما كما يتصدع بها كيان يهود، فتراهم في كل مرة يحاولون الالتفاف على تلك الحالات ليسوقوها إلى دهاليز السياسات ويحيطوها بالمؤامرات، وليحشروا نتائجها بمطالبات رخيصة، وتأطير ضمن الخطط الجاهزة والمشاريع الدولية، ليحيلوا كل نصر إلى هزيمة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وليقطعوا الطريق على أي محاولة لقطف الثمار.
إن تحرير الأرض المباركة متاح، بل هو سهل قريب، بمعية الله وعونه ونصره القريب، ولكنه بحاجة لإعادة ضبط الأمة لمفاهيمها، بنبذ الوطنية والقطرية وإزالة الحدود والأسلاك من الأذهان لتزول تلقائيا من الأرض، وإدراكها بأن أدواتها في التحرير هي قواها وجيوشها التي أقصيت من المعركة ولم تدخل بعد، وقد آن لها أن تدخل، ونقول معركة لا حرب لأن حد هذا الكيان المسخ هو معركة كبيرة لا أكثر، فهو لا يملك بقاءه بقواه الذاتية، بل بحبل من التخاذل يمده به الحكام، وهو كيان جبان، لا يقوى على أي خسارة بشرية، إذ إن كل خسارة بشرية يشرد بها من خلفها ومن خلفهم.
ولذلك فإن واجب الأمة أن تحتضن طلائعها الشجاعة وقواها المجاهدة، وأن تمد أبطالها بميمنة من الجيوش وميسرة، وأن تتحرك لتراكم على بطولات أبنائها بطولات جديدة، ونخص بالذكر أهل القوة والمنعة فيها، الذين آن لهم أن يفكوا القيد ويكسروا الأغلال، فيرى الله منهم ما يرضيه عنهم، وليشهد الناس يوم الهروب الكبير، ليس هروب الجبناء في كيان يهود فحسب، بل وهروب أوليائهم من الحكام الجبناء والأنظمة العميلة كذلك، ويشهدون يوم النصر الكبير، وصلاة في المسجد الأقصى المحرر، وما ذلك على الله بعزيز ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
بقلم: الأستاذ يوسف أبو زر
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع