لقد شهد الصراع بين روسيا والصين وبين الغرب على رأسه أمريكا، ذروته في العامين الأخيرين 2022- 2023، واتخذ هذا الصراع منحىً خطيرا؛ وصل إلى حدّ التهديد بالسلاح النووي أو غير التقليدي، وتخريب خطوط الغاز، التي تقدر بمليارات الدولارات، وإلى الهجوم والهجوم المضاد إلى عقر دار الخصمين في موسكو وكييف، وربما تطور هذا الصراع؛ لتدخل فيه دول أخرى مجاورة من منظومة حلف الأطلسي، أو من حلفاء روسيا، أو ربما يفجر صراعات أخرى مع الدول المحسوبة على روسيا في محيطها؛ تقوم أمريكا بإشعالها لإشغال روسيا، وتوسيع دوائر الضغط عليها للاستسلام. وتوسعت دائرة هذا الصراع؛ لتدخل الصين على خط التهديدات والتهديدات المقابلة، وإلى حشد القوات العسكرية في منطقة بحر الصين الجنوبي والشرقي، وفي محيط تايوان، وإلى إدخال أحلاف جديدة شكلتها أمريكا مثل حلفي أوكوس وكواد التي تضم عدة دول. ودخلت الصين وروسيا كذلك في مناورات عسكرية مشتركة في بحر الصين. ووتيرة الأعمال في هذا الصراع المحتدم والمتطور تتسع يوما بعد يوم، ومنه تحريض أمريكا وتشجيعها تايوان على الاستقلال والانفصال والتمرد على الصين بطرق ملتوية؛ منها تزويدها بالمعدات العسكرية والاقتصادية، وإرسال حاملات الطائرات العملاقة إلى محيطها، وإجراء مناورات عسكرية مشتركة معها. وصار ينعكس هذا الصراع على العالم كله.
فما هي المخاطر التي تتهدّد العالم بشكل عام وتهدد أمريكا وأوروبا وروسيا والصين وأحلافها بشكل خاص؟
في الحقيقة إن أوار هذا الصراع المحتدم؛ ومنه الحرب الدائرة بين روسيا والغرب، باتت تحرق مناطق كثيرة في العالم، ويمتد لهبها هنا وهناك. وقبل أن نستعرض بعض مخاطر هذا الصراع لنقف قليلا عند بعض المقدمات المهمة في هذا الموضوع منها:
- تحذيرات بعض الساسة الكبار والمفكرين من نتائج هذا الصراع المحتدم، وخاصة مسألة اختلال الميزان الدولي سياسيا وعسكريا. ومن هذه التحذيرات ما أبداه مهندس السياسة الأمريكية لسنوات طويلة، ومستشار الأمن القومي ووزير للخارجية لسنوات هنري كيسنجر، حيث حذر من هذا الصراع، ومن نتائجه على الميزان الدولي، وظل مدافعا عن سياسته تجاه روسيا والصين، معلنا تأييده ضرورة إبقاء التعاون والحوار قائما معهما، ورفضه سياسة حصارهما وعزلهما. وفي سياق حديثه عن روسيا، دعا كيسنجر خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا في 16/1/2023، لمنح موسكو الفرصة للانضمام ذات يوم إلى النظام الدولي، واستمرار الحوار معها. وقال: "يجب تجنب تصعيد الصراع بين روسيا والغرب"، نتيجة شعوره بأن الحرب أصبحت ضد روسيا نفسها، محذرا من أن تدمير روسيا كدولة سيفتح جبهة واسعة للصراع الداخلي والتدخل الخارجي، في الوقت الذى يوجد فيه 15000 سلاح نووي وأكثر على أراضيها. لهذه الأسباب فهو يرى أن الوضع السياسي العالمي الحالي يتطلب مرونة نيكسون، من أجل المساعدة في تهدئة التوترات بين أمريكا والصين، وكذلك بين روسيا وباقي دول أوروبا. وطالب كيسنجر الرئيس الأمريكي جو بايدن بعدم السماح للسياسات المحلية بالتأثير على السياسة الخارجية تجاه الصين، وأوضح أنه من المهم بالطبع منع هيمنة الصين أو أي دولة أخرى، لكن هذا ليس شيئا يمكن تحقيقه من خلال المواجهات التي لا نهاية لها، محذرا من أن تصاعد التوترات يهدد بـكارثة عالمية مماثلة للحرب العالمية الأولى.
- روسيا ليست كأي دولة فهي شبه قارة كبيرة توازي مساحتها مساحة أمريكا الشمالية، وتملك كميات هائلة من السلاح المتطور، ومن إمكانات الطاقة وأنواع الزراعة والموارد الطبيعية، وليس من السهل القضاء عليها أو إنهاؤها كدولة.
- إن مسألة الحلف بين الصين وروسيا هو حلف استراتيجي بمعنى أن انهيار روسيا سيكون مقدمة لخضوع الصين، وتشديد الهجمة الأمريكية المسعورة تجاهها خاصة في محيطها بل في عقر دارها. وإن الصين لا تسمح بانهيار روسيا، وهي تحاول دعمها بكل الوسائل المتاحة سياسيا واقتصاديا.
- إن موضوع صمود روسيا لفترة طويلة من الزمن سيولد صراعات متعددة عالميا كما ذكر رئيس الدوما ميدفيديف؛ حيث صرح بأن هذا الصراع سيستمر لعقود قادمة. (وقال نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، دميتري ميدفيديف في لقاء مع الصحفيين خلال زيارة قام بها إلى فيتنام: "إن الصراع الأوكراني قد يستمر لفترة طويلة، وربما لعقود". وأثار ميدفيديف مجدداً الجدل بتصريحاته النارية المثيرة التلويح باحتمال الانتقال لاستخدام أسلحة نووية. ورأى أن البديل الوحيد يكمن في ضرورة التدمير الكامل لطبيعة القوة النازية في كييف). إن طول أمد الحرب سيولد تفاقمات وتطورات للأزمة تدفع بها أمريكا لتعجيل حسمها؛ لأن إطالة أمد الصراع ستكون له نتائج كارثية على الغرب، وعلى التحالفات الأوروبية على وجه الخصوص. وهذا الأمر، أي تطوير أمريكا للحرب من أجل تقصير مدتها ستكون له نتائج كارثية على دول العالم؛ من حيث إمكانية دخول دول أخرى حلبة الصراع، وكذلك إمكانية استخدام السلاح فوق التقليدي.
- اتخذت أمريكا من حرب روسيا في أوكرانيا ذريعة لدى دول أوروبا بأن روسيا تريد القضاء عليها واحتلالها؛ وذلك من أجل بقاء الحلف العسكري والسياسي ضد روسيا. وقد حذر الساسة الروس دول أوروبا أكثر من مرة من مسألة الانجرار وراء أمريكا؛ فقد صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن الاتحاد الأوروبي أصبح معادياً وخسر روسيا، وإن موسكو ستتعامل مع أوروبا بطريقة قاسية إذا لزم الأمر. وقال في مقابلة مع موقع أرجومنتي آي فاتكي، نشرتها جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 4/5/2023: "لقد خسر الاتحاد الأوروبي روسيا، لكن هذا خطؤه، الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وزعماؤه هم الذين يعلنون صراحة أنه من الضروري إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، مثلما يسمونها". وأضاف أن روسيا قررت كيفية الرد على تزويد أوروبا النظام الإجرامي في كييف بالأسلحة والمدربين.
- ما تقوم به أمريكا من أعمال وتحالفات ضد الصين، وتشجيع لتايوان على التمرد عليها إنما يصب في سياسة محاصرة الصين لانكفائها في محيطها، ولجرها لحرب في منطقة تايوان، ومن ثم تأليب العالم عليها تماما كما فعلت مع روسيا. وقد بلغت التحذيرات الأمريكية للصين ذروتها بالتهديد بالمواجهة العسكرية إذا تطورت الأمور واحتلت الصين تايوان وضمتها بالقوة العسكرية. فقد حذر الرئيس الأمريكي بايدن الصين في 23/5/2022 قائلا: "إن أمريكا سترد عسكريا في حال هجوم الصين على تايوان، متهما بكين باللعب بالنار في هذا الشأن".
إن مخاطر هذا الصراع ستكون له نتائج كارثية على العالم وهو أخطر صراع منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ليس بين أوكرانيا وروسيا، وإنما هو بين فريقين كبيرين؛ أمريكا ومعها حوالي 50 دولة ومنظومة حلف الأطلسي، وبين روسيا والصين ومعهما المنظومات المجاورة لهما من حلفاء كلا الطرفين. وإن الأجواء التي يعيشها العالم اليوم هي أشبه بالأجواء قبل الحرب العالمية الأولى كما قال كيسنجر.
...يتبع
رأيك في الموضوع