بعد اتصالات واجتماعات وزيارات وتبادل التهاني ونشاطات دبلوماسية محمومة مع النظام السوري المُجرم قام بها مسؤولون من مختلف الدول العربية، وكان آخرها وأهمها اجتماع وزراء خارجية مصر والسعودية والعراق والأردن مع وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في العاصمة الأردنية عمان، وقرّروا فيه إنهاء المقاطعة ضد النظام السوري، والسماح له بالعودة إلى حضن الجامعة العربية.
بعد ذلك توّج الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط هذه التحرّكات بقوله: "إنّ الرئيس السوري بشار الأسد يمكنه المشاركة في قمّة الجامعة العربية هذا الشهر"، وأضاف: "سوريا منذ الليلة عضو كامل العضوية في جامعة الدول العربية، وابتداء من يوم غد لها الحق في المشاركة في أي اجتماع، وعندما تُرسل الدولة المُضيفة - السعودية – الدعوة فيمكن للأسد الحضور إذا رغب في ذلك".
وبذلك يكون قرار تجميد عضوية النظام السوري في الجامعة العربية الذي اتخذ في تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2011 بسبب قمع النظام العنيف للاحتجاجات المناهضة له قد رُفع، وتكون الجامعة العربية بذلك وكأنّها قد سامحته على قتله مئات الآلاف من أهل سوريا، وتهجيره الملايين منهم قسراً عن بلداتهم.
والغريب أنّ الدول العربية وبالذات مصر والسعودية والأردن لم تشترط على النظام السوري أية شروط لعودته للجامعة، بل إنّها هي التي تتهافت عليه لإعادته إلى حظيرتها، والأغرب من ذلك أنّ نظام بشار هو الذي يتمنّع ولا يظهر أي تحمس للعودة.
فهذه هي طريقة الدول العربية التابعة في تناول القضايا الحيوية، فقضية جوهرية كقضية طغيان نظام بشار وقتله لشعبه وتشريد الملايين منهم لا تعتبر بالنسبة لهم قضية ذات بال، فما يأتيهم من أوامر من أمريكا يُسارعون إلى تنفيذها من دون تردد، فلا يسألون أنفسهم مثلاً لماذا يتم إرجاع نظام بشار إلى الجامعة؟ ولا يهتمون بسؤال أنفسهم مثلاً هل تغيّر بشار وبدّل، أم بقي على الحالة نفسها التي كان عليها لحظة خروجه من الجامعة، حتى ولا يُطالبون بوجود نفوذ لهم داخل سوريا كما تفعل إيران وتركيا، فالمهم عندهم هو تطبيق التعليمات والأوامر فقط وليس أي شيء آخر.
وفي المقابل نجد أنّ إيران مستمرة في تثبيت نفوذها في سوريا، بل وتتوسّع فيه على كل المستويات والأصعدة، ففي الوقت الذي تتهافت الدول العربية على التطبيع مع بشار بدون الحصول على أي مقابل فإنّ إيران تُعمّق وجودها في سوريا من خلال أعمال سياسية ودبلوماسية ناجحة، تترجم تحقيق أهداف عملية محدّدة وتعكس مدى تعاظم النفوذ الإيراني داخل سوريا، ففي زيارته الأخيرة لسوريا بحث الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مع بشار الأسد ملفات الأمن والاتصالات وإعادة الإعمار، واصطحب معه خمسة وزراء من حكومته لتنفيذ المشاريع الإيرانية في سوريا ومنها مشروع ربط سوريا بإيران والعراق بخط سكة حديد.
واستقبل الرئيس الإيراني في دمشق استقبالاً مهيباً حافلاً ظهرت فيه الشعارات الطائفية المؤيدة للتشيع والمعبرة عن احتفاء سوريا بإيران شعبياً ورسمياً.
ففرق كبير بين الدبلوماسية الإيرانية الفاعلة النشطة والتي تمخض عنها وجود حضور إيراني عسكري واقتصادي واجتماعي في سوريا، وبين الدبلوماسية العربية البائسة التي لا تزيد عن كونها ثرثرة كلامية لا تُنتج أية أعمال ذات قيمة.
فالذي يريد أن يكون له نفوذ في سوريا أو في غيرها يجب أن يستثمر أولاً في الجانب العسكري من خلال قواعد عسكرية ومنشآت، أو جيوش ومليشيات، كما تفعل إيران وتركيا وأمريكا وروسيا في سوريا، فبدون الوجود العسكري لا قيمة لكل الأفعال الدبلوماسية.
وسوريا بالذات هي أخطر وأهم مكان في الشرق الأوسط، فهي من ناحية جغرافية مركز بلاد الشام، فتتصل سوريا بفلسطين المحتلة وبتركيا والعراق، وما يجري فيها من أحداث يؤثّر على المنطقة برمتها، فهي واسطة العقد، ومنها تُبنى الدول وتتحد وتتكامل، ومنها تنهار الدول وتتشظّى وتتلاشى.
والدول العربية ساعدت النظام الإجرامي في بدايات ثورة الشام ومكّنته من الصمود أمام ضربات الثوار، فاشترت قادة الفصائل ورشتهم بالمال، وبعثرت قوتهم، وفرّقت جمعهم بالتحايل عليهم، وهو ما مكّن النظام من البقاء، فلماذا لا تطلب هذه الدول العربية الثمن مقابل هذه الخدمة الضخمة التي قدّمتها لبشار المجرم؟!
لا يوجد في السياسة اليوم تقديم خدمات بلا مقابل، فالسياسة مصالح متبادلة وتقديم أثمان وكسب نفوذ، لكنّ الدول العربية لا تفهم من السياسة إلا الطاعة العمياء للدول الغربية!
حتى إنّ هناك الكثير من الحكام العملاء الذين لديهم إحساس بقيمتهم يقايضون أسيادهم مقابل الخدمات التي يقدّمونها لهم، فعلى الأقل على هؤلاء أنْ يطلبوا المكافآت لقاء خدماتهم التي يقدّمونها لأولئك الأسياد.
إنّ بؤس هذه المنظومة السياسية العربية لعله يُنذر بقرب زوال هذه المنظومة من جذورها، فالثورة قادمة من جديد، وهي قادمة لا محالة، وهي لن تُبقي لهؤلاء الحكام البائسين أي أمل في البقاء، فعليهم إعادة النظر بما هم فيه من تبعية إن لم يكونوا غافلين.
رأيك في الموضوع