تتابعت وكالات الأنباء والصحف في نقل الأخبار المتعلقة بالتقارب الإيراني السعودي، وعلقت معظمها على ذلك بالتعجب والاستغراب، وبعضها بالتساؤل من الرابح ومن الخاسر من هذا التقارب.
فما حقيقة هذا التقارب، وما هو موقف أمريكا منه؟ وكيف دخلت الصين في هذه المعادلة ومن أي باب؟ وما تأثير هذا الاتفاق على كيان يهود وخاصة حكومة نتنياهو؟
ونتناول الإجابة عن هذه الأسئلة من ثلاث زوايا، الأولى: مدى تأثير هذا الاتفاق على كيان يهود، وموضوع الانفتاح والتطبيع الجاري على قدم وساق مع الدول العربية. والثانية: دخول الصين لرعاية هذا الاتفاق، وكيف سمحت لها أمريكا بذلك. والزاوية الثالثة: هي مستقبل هذه التفاهمات وكيف ستسخرها أمريكا في دعم سياساتها للمنطقة؟!
أما الزاوية الأولى: فلا يخفى على متابع أن كيان يهود يسابق الزمن في الانفتاح على الدول العربية. وقد قام بالفعل بعقد اتفاقات مع بعض الدول مثل الإمارات والبحرين. وكان يمهد الطريق لتوقيع اتفاق مع السعودية في هذا العام، وبالذات كان يطمح نتنياهو لنيل قصب السبق هذا في عهد حكومته الحالية؛ لتكون دفعة للأمام أمام خصومه السياسيين. وقد كان هذا الاتفاق صفعة قوية لحكومة نتنياهو وسياساته، وجائزة لخصومه السياسيين من المعارضة الساعية لإسقاط حكومته. وذلك بتحميله أسباب هذا الفشل؛ بسبب مواقفه المتهورة تجاه الملف الإيراني بالتهديد والوعيد، ومناكفة الساسة والوسطاء الأمريكان أثناء زيارتهم لكيان يهود.
أما الزاوية الثانية: ما هو الهدف من هذا التقارب الإيراني السعودي بإشراف الصين، ومن يقف وراءه حقيقة، وكيف سمحت أمريكا لها للقيام بهذه الأعمال الضخمة في مناطق مهمة من مناطق نفوذها السياسي؟! والحقيقة هي أن إيران لا تخرج في سياساتها عن الدوائر الأمريكية؛ وهذا ثبت في أكثر من موقف، وفي تصريحات الساسة الإيرانيين في أكثر من مناسبة، منها مساعدة إيران لأمريكا في غزوها لأفغانستان والعراق، ومنها أيضا دخول إيران إلى سوريا للقضاء على الثورة. ومن هذا الباب نقول بأن التقارب لا يخرج عن رغبات أمريكا، ولا يؤثر على توجهاتها في سياسة المنطقة، فكلاهما - إيران ومملكة آل سعود - موال لها ولا يخرج في سياساته خاصة الخارجية عن رغباتها وتوجيهاتها وتوجهاتها. فهذا الاتفاق جاء إذاً برضا أمريكا ورعايتها، ولكن بصورة غير مباشرة؛ ذلك أن أمريكا تتظاهر بأنها من أعداء إيران، وهذا كذب وتضليل، من أجل إظهار إيران بمظهر آخر تريده أمريكا لها في المنطقة، وهو مظهر غير حقيقي، تكذبه مواقف إيران السياسية السابقة والحالية في أكثر من مناسبة. ففي العراق وبعد غزوها سنة 2003 قام وزير خارجية إيران كمال خرازي بزيارة بغداد عام 2005 وهي في ذروة الاحتلال الأمريكي، حيث زار الجعفري في بغداد، وأدان الجانبان العراقي والإيراني أعمال المقاومة للاحتلال الأمريكي تحت مسمى إدانة (الإرهاب) في العراق! وفي أفغانستان كذلك قام الرئيس الإيراني نجاد بزيارتها عام 2010؛ وهي تحت الاحتلال الأمريكي، وقدم الدعم لنظام كرزاي خادم أمريكا.
فلا تستطيع أمريكا رعاية مثل هذا الاتفاق بصورة مباشرة أمام شعبها، وصناع القرار فيها؛ لأنه يخالف الصورة المعاكسة التي رسمتها أمريكا كذباً وتضليلا لإيران من أجل تحقيق أهدافها السياسية في المحيط العربي خاصة الخليج. ولكن لماذا الصين بالذات في هذا الموضوع الحساس، وفي مناطق نفوذ أمريكا المهمة؟! والحقيقة هي أن أمريكا تمارس سياسة الترهيب والترغيب مع الصين، وتوكل لها بعض الأعمال، أو تسمح لها بممارستها، تماما مثل الاتفاق الاقتصادي الذي عقدته الصين مع السعودية، وبعض الدول الخليجية في العام الفائت 2022، والدول التي تعاقدت مع الصين محسوبة على أمريكا، أو سائرة تحت مظلتها، ومنها السعودية وقطر والإمارات، حيث وقعت اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين السعودية والصين. فمثل هذه الاتفاقات تساعد أمريكا في تطويع الصين لأمور أخرى بالترغيب في منطقة روسيا وأوكرانيا وغيرها. وفي الوقت نفسه تعتبر متنفسا اقتصاديا لعملاء أمريكا؛ بسبب الأوضاع السيئة التي تعيشها المناطق العربية، وعدم قدرة أمريكا على دعمها في ظل الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها. فسياسة الترغيب والترهيب، والاعتماد على الغير في بعض المهام السياسية والاقتصادية والعسكرية هي من أساليب أمريكا مع الدول الكبرى.
والأمر المهم كما ذكرنا في الزاوية الأولى هو ما يتعلق بكيان يهود خاصة أن الحكومة الحالية باتت تشكل مصدر إزعاج لأمريكا بتصرفاتها الهوجاء داخل فلسطين وخارجها، حتى باتت أمريكا تنظر إلى إسقاطها عن طريق أطراف المعارضة السياسية والعسكرية في كيان يهود. وعن طريق ازدياد المعارضة رغم قيام الحكومة بأعمال عدة للفت أنظار يهود، وعدم الانشغال بالمعارضة وتأييدها، إلا أنها فشلت في ذلك. فصارت تهدّد وتتوعد إيران، وإظهار عدم الرضا عن سياسة أمريكا وأوروبا تجاهها. وقد فهمت أمريكا أن نتنياهو يفكر بشكل جدّي للخروج من الأزمة بضرب إيران، فجاءت هذه التفاهمات لتحول دون ذلك. وبالتالي قد تعجل بسقوط حكومة نتنياهو إن استمرت بالسير خلاف رغبات أمريكا وسياساتها.
والأمر الأخير الذي نريد أن نبينه، وهو مستقبل هذه التفاهمات؛ فإن تقارب إيران مع السعودية سيجعل دول الخليج تحذو الحذو نفسه، وبالفعل فقد باركت بعض دول الخليج هذا الاتفاق، وهذا يزيد الأمور صعوبة على حكومة نتنياهو المشاكسة، وفي الوقت نفسه يفتح الطريق مستقبلا أمام أي حكومة تتعاون مع أمريكا بشكل جيد لفتح المسارات من جديد، وإشراك إيران نفسها في دائرة هذا الانفتاح، وفي تشكيل نواة القوة العسكرية العربية التي تخطط لها أمريكا من أجل زيادة هيمنتها، ومنع أي تهديد لها.
وفي الختام نقول: إن كيان يهود لا يساوي شيئا في ميزان الدول، ولا يستطيع وحده دون حبل من الناس أن يعيش باستقرار وأمن. وإذا أراد أن يتمرد على سياسات الدول الكبرى فإنه يواجه الفشل الذريع. أما الأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية، فإنها طوع بنان الدول الكافرة تفعل ما تشاء، ولا تعصي لها أمراً. وهذا يذكر أمة الإسلام بالمصيبة الكبرى التي تعيشها، بسبب هؤلاء الرويبضات.
نسأله تعالى أن يعجّل بزوال هؤلاء الحكام عن رقاب المسلمين، وأن يكرم أمة الإسلام بحاكم رباني، يعيد لها عزتها ومكانتها وكرامتها. اللهم آمين.
رأيك في الموضوع