في تصريح مفاجئ للناطقة الرسمية السابقة لحركة بيغيدا "Pegida" في ألمانيا "كاثرين أورتل"، أكدت في فيديو عرضته على صفحتها الخاصة على الفيسبوك بتاريخ 29 نيسان/أبريل 2015 أنها والحركة كانت ضحية للصحافة الممنهجة، والسياسات الداخلية التي ما زالت الحكومات المتعاقبة في ألمانيا تعتمدها بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، ومنها أن تضع اللوم في المشاكل التي تواجهها ألمانيا وأوروبا على اللاجئين والأجانب الذي يعيشون فيها. وقدمت اعتذارا للاجئين "الذين يعيشون ويندمجون بسلام في المجتمع" وخاصة للمسلمين منهم على التحريض التي شاركت فيه ضدهم، ونصحت حركة بيغيدا أن تغير نهجها ومسيرها لأنها بذلك تقوم بما يريده منها الإعلام الممنهج "Mainstream Media" على حد قولها. ودعت إلى مظاهرة "حب وسلام" للتضامن مع الأجانب في دريسدن التي كانت أكبر معقل لحركة بيغيدا المعادية للإسلام والمسلمين.
ويبدو أن أورتل فهمت أخيرا اللعبة ووعت بعض أبعادها المحلية على الأقل، وعلمت أن هناك من يقف وراء هذا الحراك الداخلي ويوجهه ويستغله. ولكن ما لا تستطيع أن تبوح به - جهلا أو خوفا من بطش الجهات الرسمية - ويعلمه المتابعون عن كثب، أن الذي أنشأ هذا الحراك وغيره هم أصلا رجال المخابرات الألمانية "PND"، وعندما تفاقمت الحركة وأنذرت بعواقب وخيمة، وحصل انشقاق في المجتمع بين مؤيد ومعارض، وأخطار مستقبلية غير محسوبة العواقب، قامت بفضها بطريقتها الخاصة، لأنها تعلم مفاصلها جيدا. واكتفت الجهات الرسمية بما حققه لها الحراك من فوائد تتمثل في إيجاد رأي عام على ضرورة معالجة مشكلة الأجانب، وبالتالي ضرورة تغيير بعض القوانين واستبدال أخرى بها كانت معدة مسبقا ومثيرة للجدل، فأصبحت محل قبول من الناس.
إن سياسة اللعب على ورقة الغريب والغرباء الأجانب الذين "يهددون" مصالح المجتمع والدولة هي من السياسات القديمة المستحدثة في ألمانيا وأوروبا بشكل عام. وهذه الورقة مبنية على طبيعة الشعوب الأوروبية، و"عقدة الغريب" التي تكونت عبر التاريخ الدموي لأوروبا وحروبها الداخلية والخارجية، والتي مفادها أن الغرباء لا يجلبون سوى الخراب والدمار، ولذلك يجب مراقبتهم والحذر منهم والنظر إليهم بعين الريبة.
وقد استغل النظام الرأسمالي هذه العقدة أيما استغلال. ذلك أنه لا يقدم إجابات فكرية مقنعة على العديد من التساؤلات الإنسانية التي تثار حول مسلك الرأسماليين في جني الثروة وتركيزها عن طريق الاستغلال والاستعمار والكذب واختلاق الأعذار. فلجأوا إلى استحداث فكرة العدو الخارجي الذي يهدد المصالح الداخلية والخارجية، فتناغمت مع طبيعة الشعوب وأثمرت اصطفافا مصلحيا وراء السياسيين، وغدت ورقة تستعمل عند الحاجة، وأداة كامنة سهلة الإثارة في كل حين. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يأخذ صورة "العدو الأكبر" لأوروبا والعالم الرأسمالي، كان لا بد من استبدال الصورة، وكانت أحداث 11 سبتمبر 2001 مواتية، ولعبت وسائل الإعلام دورها المطلوب في ترسيخ الصورة الجديدة في أذهان الناس، وما زالت تغذَّى هذه الصورة بأفعال يقوم بها مسلمون مثل تنظيم الدولة وغيره، وأخرى مشبوهة أو مفتعلة من الأجهزة الأمنية بين الحين والآخر كحادثة باريس، حتى لا تزول من أذهان الناس. ويتم ذلك في انتقائية واضحة في عرض الخبر، وفي حين تغض فيه البصر عن الصورة الحقيقية لما يجري من الأحداث ويتم اختيار ما يخدم منها بقاء هذه الصورة في ذهن الأوروبي.
إن المتتبع للسياسات الأوروبية تجاه المسلمين الذي يعيشون فيها، خصوصا في ألمانيا وفرنسا، يلاحظ أنها تسير باتجاه واحد وهو التضييق عليهم، وعلى العمل الإسلامي بكافة أطيافه بشكل خاص، والعمل على تشويه الإسلام وصورته في أذهان أبنائهم وأبناء المسلمين من أجل أن يبعدوهم عن ثقافتهم الأم ويجعلوا منهم أجيالاً رأسمالية تخدم النظام الرأسمالي وحده، وتحل مشاكله التي تخيم على المجتمعات الأوروبية وفي مقدمتها البطالة، وتدني نسبة النمو في أعداد السكان.
وهناك مسودات مشاريع لقوانين تذكرنا بالممارسات النازية ضد اليهود، وما يشابهها في باقي أوروبا. ففكرة قانون "الجواز الإسلامي" حيث يكتب على جواز سفر العاملين للإسلام ودعوته "إسلامي" تذكرنا بنجمة داوود التي فرضتها النازية على اليهود الذين كانوا يعيشون في ألمانيا.
ولكن ما لا يعيه كثير من الساسة المتحمسين، أن المسلمين الذين يعيشون في أوروبا اليوم ليسوا كاليهود الذين كانوا يعيشون آنذاك فيها. فالمسلمون ليسوا مقطوعين عن أمتهم، وليسوا بعيدين عنها، والعقيدة الإسلامية متجذرة فيهم لا يستطيع أحد قلعها من نفوسهم. بل إن هذه الأمة اليوم في حراك عظيم يؤثر على العالم بأسره.
اللهم عجل بفرجك ويسر للمسلمين من أمرهم رشدا، وآتهم نصرك الذي وعدت في كتابك الكريم حيث قلت وأنت خير القائلين: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. اللهم خلافة على منهاج النبوة تقيم العدل والدين، وتلم بإذنك شمل كل المسلمين.
بقلم: د. محمد عقرباوي
رأيك في الموضوع