إنَّ من أعظم ما يُصيب البلدان الحُرة وُقوعَها في شَرَك مُحتلٍّ غاشمٍ يستبيح بيضتها، وينتهك حرمتها، ويُعاملها معاملة السيِّد لعبدهِ، فيفرض عليها وجهة نظره في الحياة، ويحمِلها على تطبيق أنظمةٍ وقوانينَ تُخالف عقيدَتها. والعراق واحدٌ منها، غزتهُ أمريكا الكافرة مستخدمة كل وسائل البطش والدمار. فككت مؤسَّساتهِ، وحلتْ جيشهُ، وتركته نَهْبا لكلّ عابث. ولما ظهر تنظيم الدولة (الإسلامية) بعد سيطرته على أجزاء من سوريا والعراق فاستولى على نينوى كاملة، ومعظم مُدن الأنبار منذ قرابة عامٍ كامل وأجزاء أخرى هنا وهناك في شرق البلاد مُعلِنا فيها (دولته)، صارت الحروب سجالاً بينه وبين جيش العراق (الجديد) ليزيدَ ذلك "التنظيمُ" من تمدُدِه مع إعلانه المتكرر أنَّ وُجهَتهُ العاصمة بغداد.
وفي منتصف أيار الجاري خاض "التنظيم" معركة جديدة سيطر فيها على مركز الرمادي (عاصمة) الأنبار واستولى على مجمَّع المباني الحكومية. وخلال الأيام القليلة التالية شنَّ هجوما واسعاً على باقي مناطق الرمادي حتى باتت المدينة كاملة تحت سيطرته، ولكن بعد معارك ضارية تكبَّد فيها جيش العراق والقوات المتجحفلة معه من الشرطة الاتحادية والمحلية ومتطوعي العشائر خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات حتى بلغ عدد القتلى بالمئات. ويقول "التنظيم": إنهُ بصدد السيطرة على الطريق الواصل إلى بغداد، ومن جهةٍ أخرى فهو يحاول التوَجُّهَ إلى معسكر الحبَّانِيَّة ذي الأهمية الاستراتيجية لما يحويهِ من آليات ومعدات عسكريةٍ مهمة.. فضلاً عن قُربه من بغداد، الأمرُ الذي يظهِرُ أنَّ خسارة الرمادي أكبر من خسارة الموصل.
إنَّ سقوط الرمادي بيد "التنظيم" تقاطعت الآراء بشأنهِ، ففي الوقت الذي تصِرُّ فيهِ الجهات النافذة في التحالف الوطني (الشيعيّ) على أنَّ مسؤولية ذلك تقع على عاتق قائد عمليات الرمادي اللواء الركن (.........) وهو من أهل الأنبار وتتهِمه بإصدار أوامِرهِ لقوات الجيش بالانسحاب بِحُجّة هبوب عاصفة ترابية..! ونَقلتْ وكالات الأنباء عن الشيخ عبد المهدي الكربلائيّ ممثل السيستانيّ في خطبة الجمعة قوله: أنَّ الآلاف من قوات الشرطة المحلية - وهم أبناء المحافظة نفسها - هربوا تاركين أسلحتهم غنائم لمقاتلي "التنظيم" الإرهابي...!
في حين تُثبِتُ كل المصادر العالمية إلى أن الجيش قاتل قتالا عنيفا لإيقاف زحف قوات "التنظيم" وصدِّ عملياتهِ الانتحارية، لكنَّ ضعف قُدُرات الجيش العراقي قاد إلى الانسحاب (المصدر: الجزيرة)، وهذهِ شهاداتٌ مِمَّن كان في أرض المعركة:
- اعتراف قائد شرطة الأنبار اللواء الركن كاظم الفهداوي بأن عناصر الشرطة المحلية انسحبوا بسبب قلة العتاد وضعف تسليحهم. (جريدة العرب).
- وقال المستشار الإعلامي لرئيس مجلس الأنبار (سليمان الكبيسي) لراديو المِربد: "إنَّ عدم إرسال تعزيزاتٍ عسكريةٍ إلى القوات التي تقاتل "التنظيم" أدى إلى انسحابها إلى منطقة السبعة كيلو غرب مدينة الرمادي، وفرض التنظيم الإرهابي سيطرته بشكل كامل عليها.وأكَّد أنَّ القطعاتِ الأمنية تتعرَّض إلى إبادة جماعية على يَد "التنظيم" بالإعدامات والقصف والمفخخات، ما دفع المتبقيَ منها للانسحاب خارج حدود المدينة. (راديو المِربد).
- وكشف المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون ستيفن وارن، عن اضطرار القوات العراقية للانسحاب من الرمادي في وقت مبكر. (صحيفة واشنطن بوست الأمريكية).
- نقل إلينا شهود عيان عن صِغار الضباط والمراتب: أنَّ كبار القادة العسكريين انسحبوا حينما شعروا بقرب الإطباق عليهم من مقاتلي "التنظيم"، مع عدم وصول أي تعزيزاتٍ من الألوية الثلاثة التي وعد رئيس الوزراء (العبادي) بإرسالها إلى الرمادي..! وكان انسحاب أولئك القادة دون إعلام لمن تحت إمرتهم، تاركين إياهم يواجهون مصيرهم، ما حدا بهم أن استقلت كلُّ مجموعة منهم مدرَّعة أو سيارة عسكرية تاركين أرض المعركة فرارا بأرواحهم، وأكثر من ذلك، فقد استخدم الباقون منهم سيارات المدنيين الموجودة هناك ومن دون إذن للخروج من مواقع القتال...!
إنَّ العودة قليلاً إلى الوراء، تنبئ بما لا يدع مجالا للشك أنَّ أمريكا - ومنذ اليوم الأول لاحتلال العراق - كانت تُبيِّتُ تدميرهُ وإيقاعهُ في بحر من الفوضى والمشاكل المستعصية. وإلا فماذا يمكن أن يقال عن جيشٍ أشرفت هي بمستشاريها العسكريين على تدريبهِ وتسليحهِ لمدة (10) سنوات، وبنت القواعد والمعسكرات، واستقدمت من المُعَدات الحربية والاستخبارية، وأنفقت مليارات الدولارات - بحسب الإحصائيات الدولية - ليكون للعراق جيشٌ متطورٌ وقادرٌ على حماية شعبه ومكتسباته في المحصلة النهائية، لكنَّ شيئاً من ذلك لم يتحقق، ولنرَ ما قالهُ زعيم الشرِّ (أوباما) تعليقا على نكسة سقوط الرمادي، قال: "أنها كانت بسبب ثغرة في تدريب ودعم القوات العراقية" (جريدة العرب)..! هل هذا كلامٌ مقبول؟ أيُّ ثغرة هذهِ التي تسببت في تهجير معظم أهل الأنبار: آلاف الأسَر باتت في العراء، لا سكن، ولا مورد للرزق، بل لا تعليم، ولا رعاية طبية، ولا حتى نهاية معلومة لمعاناتهم، ولقد حدثت وفيات وولادات بين صفوف النازحين على حدود بغداد التي باتت عصيَّة على أهلها الشرفاء، ثم يقول أوباما: هي "ثغرة" ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾.
أضف إلى ذلك تشريع قانون تقسيم العراق إلى أقاليم عِرقية وطائفية (عام 2013)، ثم قرار التعامل مع حرس الأكراد (البيشمركة) ومتطوعي العشائر كقوتين أو دولتين منفصلتين هذا العام (2015)، بِشأن تسليحهم دون الرجوع إلى حكومة (العبادي).. ومنذ عام أو أكثر وأمريكا تعِدُ بتدريب وتسليح العشائر دون أن تُتبِعَ ذلك بالأفعال. وأما عن التحالف الدولي المزعوم الذي بلغت تعداد الدول المشاركة فيه - بحسب الإعلام الأجير - خمسين أو ستين دولة، ومئات الغارات الجوية لضرب مواقع "التنظيم" في سوريا والعراق، لكنَّ "التنظيم" يتقدم ويُحرزُ (انتصارات).
نستخلص مما سبق، أن سقوط الرمادي بيد التنظيم يختلف عن سقوط الموصل، ذلك أنَّ الرمادي أريد لها أن تسقط ولكن عن طريق قطع الدعم والتعزيزات اللازمة لكسب المعركة وطرد "التنظيم". هذه المؤامرة تم تنفيذها من قِبَل أمريكا، والتحالف (الشيعيِّ) المُهيمن على مقاليد الحُكم، وبحضور شهود الزور المتآمرين من السياسيين (السُّنة) عبيد المناصب. هكذا تُرك الجيش ومقاتلو العشائر يدفعون عدواً يفوقهم عُدة وتدريباً يقاومونه بأسلحة خفيفة..! وهذه البلدةُ المنكوبة (الرمادي) سقطت لتشفي صدورا مريضة حاقِدة في أمريكا وإيران وميليشياتها الطائفية وحكومة (العبادي)، ﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾، ولكلٍ أهدافه ودوافعُه:
- أما أمريكا فبينها وبين أهل الأنبار ثأرٌ قديمٌ، يومَ أذلت (الفلوجةُ) كِبرياءَها مرَّتين، كبَّدها أهل الأنبار خسائر فادحة وثمنا باهِظاً، وإليك ما جاء في صحيفة نيويوركر الأمريكية "أن كوابيس مشاة البحرية الأمريكية في الأنبار ما زالت ماثلة في الأذهان، إذ فتكتْ هذه المحافظة "السُّنيّة" بنَحو 1300 عنصر من هؤلاء المشاة".
- وأما إيران فقد كان أهل الأنبار خصْماً لها يفضحون ممارساتها المؤذية لشعب العراق ويتهمونها بلا مواربة هي وميلشياتها الطائفية. والآن تم لإيران ما أرادت فقد أصبحت ميليشياتها يرافقها (المستشارون) الإيرانيون يتبوؤون منها ما يشاؤون، وأصبحت حدود سوريا والأردن والسعودية، على مرمى حجر منهم وفي هذا ما فيه من خطط أو مصالح لهم..!
- أما حكومة (العبادي) فقد راهنت على سقوط الأنبار كلها عبر التسويف واللف والدوران في عدم إرسال التعزيزات الضرورية للجيش نكاية به، ومنع تسليح العشائر..! وفي الوقت ذاته كان ألف متطوع من قوات الحشد موجودا في معسكر الحبّانية في الرمادي قبل فترة قصيرة من سقوطها، فلماذا لم يؤمروا بنجدة إخوانهم هناك..؟! وبهذا بات النصر الموعود مِلكاً للطائفيين..! (المصدر: الجزيرة).
ولسائلٍ أن يسألَ لماذا هذهِ الهزائم والنكسات من جيش خاض أعنف الحروب أيام (صدام)، ثم تمت صياغته من جديد على يد المحتل، كما أسلفنا آنفاً؟ والجواب على ذلك ميسور، هو أنَّ القادة السَّابقين خصوصا (السُّنّة) تم تصفية الكثير منهم بواسطة عصابات إيران الذين جاءوا بقوائم أسماء مَن ساهم في الحرب ضدَّهم، ومنهم من هرب من البلاد، أو انضمَّ إلى (القاعدة) أو "التنظيم" أو لا يزال قابعا في السجون. ومن بقي منهم ركب الموجة وانضم إلى الأحزاب والكتل والتيارات (الشيعِيَّة) وبات همه جمع المال بكل وسيلة..! ومعظم الرُّتَب المتوسطة والصغيرة، ليسوا عسكريين أصلاً، بل ممن كان لاجئا لدى إيران فمُنِحوا رُتبَاً فخرية جزاء (نضالهم) ضِدَّ نظام البعث..؟ وهكذا، فتعدُّدُ المرجعيات الدينية والسياسية و(المصالح) هي ما يُحرِّكهم، أما الوطن أو هموم وتطلعات الأمة فلا معنى لها في قاموسهم، بل كل فصيل أو لواء يخضع لرمز من رموز الحكم.. وهلمَّ جرا. فأيُّ نَصرٍ يُنتظرُ ممن هذه شاكِلتُه؟ والنتيجة إذن محسومة لصالح الأعداء.
ولا ريب، فإنَّ بَسط "التنظيم" سيطرَتهُ على ديار أهل السُّنّة - أو ما تُعرَفُ بالحواضن - سيُحيل تلك الديار إلى خرابٍ شاملٍ تتعذَّرُ معه الحياة، وسيظلُّ أهلها لاجئين ومهجَّرين داخل بلدهم، وما لذلك مِن تداعيات على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية...إلخ. كل ذلك سيُوجد حاجة ماسة ومبرراً قوياً لدى المنتفعين والمتاجرين بآلام أهلهم وذويهم ليُمارسوا أدوار الرعاية الكاذبة والنفاق المفضوح فيُطالبوا بإقليم لأهل السُّنّة بحُجَّة رفع الحَيْفِ عنهم وتركهم يمارسون حياتهم بالنمط الذي يُناسبهم. وهذه هي الحالقة التي سترمي بالعراق في دياجير المجهول، وما يجُرُّه ذلك من احتكاكاتٍ ومعارك بينيَّةٍ، كما بات يخرجُ إلى العلن أن مناطق من الأنبار هي مِلكٌ لكربلاء، وفي الموصل أراضٍ مختلفٌ عليها بين العرب والأكراد، والأمثلة على ذلك تطول، ثم تضمحِلُّ بلاد المسلمين على هذا النحو إن كان في العراق، أو الجزيرة، أو السودان ومصر... والرابح الأكبر هم أعداء ديننا الحنيف، والكارهون المعاندون لعقيدتنا الإسلاميَّة النقية، والحاقدون علينا. فنسأل الله أن يجعل كيد الظالمين في نُحورهم، ودائرة السَّوْءِ عليهم، ويَمُنَّ على أمتنا بالنصر العاجل المؤزَّر، فتقوم دولة الإسلام المنتظرة، دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، يومها فحسب سننعم بالأمن والعِزَّة والكرامة. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
بقلم: عبد الرحمن الواثق - العراق
رأيك في الموضوع