إن حقيقة العلاقات بين الدول، وأساليب التعامل السياسي والمعاهدات والشراكات والتعاون العسكري والسياسي، والأحلاف التي تتبع ذلك، أو تتصل به، الأصل أنها تقوم على أساس المبدأ الذي تحمله الدول. فالفكر والمبدأ هو الذي يحدّد طبيعة العلاقات والشراكات والتحالفات. ففي الدولة الإسلامية تحدّد الأحكام الشرعية طبيعة العلاقات والمعاهدات، وفنون السياسة وغير ذلك من أساليب التعامل مع الدول. فلا تقيم الدولة الإسلامية على سبيل المثال أحلافاً عسكرية مع دولة كافرة لمحاربة دولة كافرة أخرى؛ لأن الشرع حرم ذلك، حتى وإن كان النصر سيتحقق بذلك، قال ﷺ: «لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ» أخرجه الإمام النسائي في السنن، والنار كناية عن القوة والقتال في الحروب.
أما الدول الرأسمالية فيختلف الأمر عندها تماماً في هذا الموضوع؛ فهي قائمةٌ على فصل الدين عن الحياة، وعلى حرية الفكر والأحكام. وهي تسيّر حياتها وعلاقاتها، على المصلحية والنفعية، بغض النظر عن الأساليب والوسائل. وتقوم بأعمال تأباها الوحوش أحيانا من أجل المنافع والمصالح؛ كما صنعت أمريكا في الحرب العالمية الثانية عندما فرضت حظرا بتروليا على اليابان، فاستدرجتها لضرب ميناء هارفر عام 1941، وكانت قد سحبت حاملات الطائرات منه، ما أغرى اليابان بضربه، وقتل الآف الجنود الأمريكان فيه، فاستطاع روزفلت أن يحصل على موافقة الكونغرس مباشرة لدخول الحرب، وكان الكونغرس يرفض دخولها من قبل. وكما فعلت في احتلال العراق وأفغانستان، وما قدمت من ذرائع في مسألة حوادث الأبراج وغيرها.
والحقيقة أن المصلحة التي تقوم عليها الأعمال الدبلوماسية قابلة للمفاضلة؛ لأنها ليست ثابتة، ولا تستند إلى أفكار ثابتة. فالدولة التي تعقد معاهدة أو حلفاً مع دولة مثل أمريكا، يمكن أن تنقلب عليها إذا رأت مصلحة أكبر مع دولة أخرى، وهكذا الدول.
فعلى سبيل المثال لا الحصر جرت اتفاقات وتحالفات من الدول الكبرى، وكان مصيرها الفشل الذريع، وانقلب الشركاء على بعضهم، نتيجة المفاضلات؛ فقد دخلت الدول الغربية في حلف الأطلسي بعد الحرب العالمية الثانية مع أمريكا، ضد حلف وارسو والاتحاد السوفيتي، إلا أن هذه الدبلوماسية اعتراها الخداع والمواربة من ناحية أمريكا مستغلة دول أوروبا اقتصاديا وسياسيا، فأقامت تفاهمات مع الاتحاد السوفيتي، عبر سياسة الوفاق سنة 1961 التي وقعها الرئيسان خرشوف وكندي، واستطاعت أمريكا من خلال هذه السياسة أن تقسم مناطق نفوذها في العالم، وأن توسع نفوذها على حساب الدول الأوروبية، في الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب شرق آسيا وآسيا، وحتى داخل أوروبا نفسها، فكان الحلف عبارة عن خديعة أمريكية لوضع أوروبا تحت جناحها واستغلالها اقتصاديا، وتوسيع مناطق نفوذها في العالم على حساب الدول المنضمة لهذا الحلف.
وفي بداية القرن الحادي والعشرين قامت أمريكا بتشكيل حلف من دول عدة ضد العراق، واستطاعت أن تجمع حشداً كبيرا من هذه الدول نتيجة سياسة الخداع والكذب. واستمر هذا الحلف العسكري سنوات عديدة؛ من خلال أعمال التفتيش وإقامة المناطق المنزوعة السلاح وحظر الطيران وغيرها. إلا أن هذا الحلف بدأ يتفكك شيئا فشيئا، نتيجة تكشف سياساتها وأكاذيبها، حتى قامت بحرب جديدة واختراع ذريعة جديدة؛ هي الحرب على الإرهاب. إلا أن الحشد الجديد لم يكن مثل الحشد الأول؛ حيث قامت الدول المتحالفة بوضع هذه الدبلوماسية تحت مجهر سياسة المفاضلة في المصالح.
ومثال آخر هو موضوع الحصار الاقتصادي ونظام العقوبات ضد إيران؛ حيث قامت أمريكا باختراع أكاذيب جديدة منها: تهديد آبار النفط والأماكن الدينية في الحرمين، وتهديد أمن كيان يهود؛ وذلك لضرب سياسة بعض الدول، ولابتزاز دول أخرى، وجعل إيران مصدر تهديد ووعيد لدول الخليج. واستمر هذا الحلف سنوات تخللته أعمال مخادعة كثيرة؛ مرة بتشديد العقوبات، ومرة أخرى تخفيفها للإيقاع بأوروبا عن طريق إقامة عقود تجارية مع إيران، ثم الانقلاب على هذه الدول بتشديد الحصار فتتكبد هذه الدول المليارات من الخسائر، وتبقى تحت هيمنة أمريكا. وها هي أمريكا اليوم تمارس سياسة جديدة تجاه إيران؛ تمهّد لرفع العقوبات عنها عبر تسوية سياسية مخادعة تهدف إلى إدخالها في منظومة المنطقة السياسية، وإقامة علاقات بينها وبين دول المنطقة، بما فيها كيان يهود وذلك كمقدمة لرفع العقوبات نهائيا عنها. وكل هذا من أجل خدمة مصلحة أمريكا في الحرب الأوكرانية، وكذلك لإيجاد حلف مشترك يخدم سياسة أمريكا في المنطقة عسكريا على غرار حلف الناتو وباقي الأحلاف مثل حلفي أوكس وكواد، وللتأسيس لسياسة جديدة بعيدة المدى لدول الشرق الأوسط.
بعد هذا الاستعراض لواقع السياسة الغربية والدبلوماسية التي تقوم على الفكر البراغماتي المصلحي، وخاصة دبلوماسية أمريكا نصل إلى النقطة الأخيرة وهي: إلى أي حد يمكن أن يستمر الحلف الجديد ضد روسيا؟ وهل سيحقق للغرب مصالحه مع أمريكا؟
وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إن الدبلوماسية الأمريكية في أحلافها ضد روسيا، الهدف منها:
أولا: تهديد أي دولة تفكر بالخروج على سياسات أمريكا.
ثانيا: إرسال رسالة قوية إلى الصين؛ بأنه في حال أي تحرك لها ستعامل مثل روسيا.
ثالثا: بقاء دول أوروبا ضمن دائرة خدمة السياسة الأمريكية؛ خاصة فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وإبقاؤها تحت جناحها ضمن سياسات الابتزاز الاقتصادي والسياسي والعسكري المستمرة.
رابعا: إبقاء الهيمنة العالمية ووضع الخطط المستقبلية ضد أي خطط لكسر حاجز هذه الهيمنة الأمريكية.
إن هناك أموراً عدة يمكن أن تؤثر في هذه السياسات مع أمريكا وأحلافها، ويمكن أن تجعل بعض الدول تتفلت من هذه الأحلاف؛ مثل طول أمد الحرب مع روسيا، وترتب خسائر باهظة على ذلك، وقيام روسيا بأعمال دبلوماسية مقابلة تجعل الدول الأوروبية تفاضل في نظرتها المصلحية؛ مثل تخفيض أسعار البترول والغاز مقابل ابتزازات أمريكا وأسعارها الباهظة. وكذلك يمكن أن تقوم روسيا بتهديدات أو إغراءات اقتصادية، وخاصة أن لديها القدرة الاقتصادية الكبيرة في هذا المجال من حيث الطاقة والغذاء والنواحي التجارية من وإلى بلادها.
وفي الختام نقول إن هذه الدول قائمة على سياسات شريرة نابعة من فكر هابط وتفاضل في مصالحها حتى على أصدقائها وشعوبها أحيانا إذا رأت مصلحة لها في ذلك. وإن السياسة الوحيدة القادرة على إدارة شئون العالم بعدل وإنصاف، وأن تنشر الأمن والعدل والاستقامة في ربوع الأرض، هي النابعة من النظام الإلهي الرباني؛ أي من دين الإسلام، وإن هذه الأمور مدعاة لوضع الخطوط العريضة أمام البشرية؛ كي تنهي هذه الشرور، وتتبع النظام الرباني الهادي، ومدعاة في الوقت نفسه للأمة الإسلامية لتعرف قيمة دينها واستقامته؛ خاصة وهي تنظر لسياسات الدول المبنية على الاعوجاج... إن هذا مدعاة لتعود الأمة الإسلامية، وتحطم هذه النظم الرأسمالية الشريرة، وتقيم نظامها على أساس الفكر الإسلامي في ظل دولة تطبقه، وتحمله رسالة خير إلى كل الأرض لتنقذ هذه الشعوب التائهة المظلومة.
رأيك في الموضوع