لى الحدود الشرقية للقارة العجوز، حتى دقت أجراس الإنذار في كل أرجاء أوروبا محذرة من العمل العسكري الذي ستطال آثاره دول الاتحاد الأوروبي. فاندفع الرئيس الفرنسي، والمستشار الألماني وغيرهما باذلين وسعهم في حث روسيا على عدم تصعيد الموقف، إلا أن الاستفزازات والرسائل التي أرسلتها أمريكا،
ما إن ظهرت بوادر الأزمة الروسية الأوكرانية، وبدأت الحشودات العسكرية الروسية على الحدود الشرقية للقارة العجوز، حتى دقت أجراس الإنذار في كل أرجاء أوروبا محذرة من العمل العسكري الذي ستطال آثاره دول الاتحاد الأوروبي. فاندفع الرئيس الفرنسي، والمستشار الألماني وغيرهما باذلين وسعهم في حث روسيا على عدم تصعيد الموقف، إلا أن الاستفزازات والرسائل التي أرسلتها أمريكا، مستغلة الشعور بجنون العظمة الذي يعتري رئيس روسيا بوتين وضحالة الرؤية السياسية لديه، كان أقوى من أفعال ساسة أوروبا، فاندفعت روسيا إلى أوكرانيا متوقعة إنهاء المهمة العسكرية في أيام معدودات. فواجه الجيش الروسي دفاعا شرسا من جيش أوكرانيا ما جعل الحرب تستمر حتى هذه اللحظة، وأظهر ما كانت تسعى له أمريكا من جر روسيا إلى مستنقع أوكرانيا لإنهاكها وكبح تطلعاتها لتكون دولة كبرى، وتوقف تطلعات الدول الأوروبية بالانعتاق من الهيمنة الأمريكية، وتبقي شريان طاقتها بيدها.
قام الرئيس الروسي إلى جانب هجومه العسكري باستخدام سلاح الطاقة تجاه الاتحاد الأوروبي ليفرض واقعا على الأرض يخفف من الدعم العسكري الذي يقدمه لأوكرانيا، ويجبر قادته تحت ضغط زيادة التضخم وارتفاع فواتير الطاقة على الشعوب الأوروبية على تغيير مواقفهم والاعتراف بالتطلعات الروسية.
فبعد أن كانت إمدادات الطاقة لأوروبا (40% من الغاز، 27% من النفط) تأتي بأسعار معقولة من روسيا، وأسعار السلع مقبولة للشعوب الأوروبية، جاءت الإجراءات الروسية المتتالية من تخفيض لإمدادات الطاقة للاتحاد الأوروبي، ثم إجبار دوله على الدفع بالروبل، وأخيرا إيقاف الضخ بأكبر خط أنابيب "نورد ستريم-1" الذي يمر تحت بحر البلطيق من روسيا إلى ألمانيا، وهو الخط الرئيسي للغاز الطبيعي في أوروبا، بحجة مشاكل فنية وتقنية سببتها العقوبات الأوروبية على روسيا، جاءت هذه الإجراءات لترفع أسعار الكهرباء والغاز لأرقام قياسية وصلت نسبة 400% مقارنة مع السنة الماضية نتيجة شراء الغاز بأضعاف السعر الذي كانت تحصل عليه من روسيا، ولتنهي عصر الرفاهية في أوروبا كما صرح بذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وتوالت الاجتماعات واللقاءات الأوروبية للتخفيف من وطأة رفع أسعار الكهرباء والطاقة، وتم اتخاذ مجموعة من القرارات تتضمن إيقاف الإضاءة الخارجية في المباني العامة، والحد من التدفئة وتكييف الهواء بتحديد حد أقصى وأدنى لدرجة حرارة الأجهزة، وإغلاق أبواب المتاجر المكيفة، والتوجه نحو أمريكا وقطر وشرق أوروبا وغيرها للحصول على الغاز المسال وتخزينه، وتقديم حزمة معونات مالية للأفراد والشركات، والعودة لاستخدام الفحم ومولدات الكهرباء النووية بما فيها من أخطار على البيئة والبشر.
كل ذلك زاد من استنزاف الاقتصاد الأوروبي والذي لم يتعاف بعد من تبعات جائحة كورونا، فارتفع التضخم في دول الاتحاد الأوروبي لمعدل 9%، وهو رقم أعلى بأربع مرات من المعدل الذي حدده البنك الأوروبي تقريبا، وبات يهدد بدخول أوروبا في حالة من الركود الاقتصادي، ومسببا تراجع قيمة العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) لمستوى لم يسجل منذ أن طرح اليورو للتداول قبل 20 عاما، ودافعا للعديد من الشركات بطلب مساعدات حكومية بسبب صعوبات مالية جراء ارتفاع أزمة الطاقة، وزيادة المطالبة بالوجبات الغذائية المجانية، وتنذر بفقدان للوظائف وارتفاع نسبة البطالة.
الأمر ليس مجرد موجة حر صيفية عابرة تجعل قادة أوروبا يعرقون، بل الخوف من تبعات سلاح الطاقة الذي تستخدمه روسيا ضد دول الاتحاد الأوروبي، والذي دفع لخروج مظاهرات حاشدة في بعض المناطق تحمِّل القادة السياسيين المسؤولية عن نقص إمدادات الطاقة وارتفاع الأسعار، وتطالبهم بوقف دعمهم لأوكرانيا ورفع العقوبات التي فرضت على روسيا، ناهيك عن اقتراب فصل الشتاء الأوروبي القارس والذي قد يسبب مزيدا من الارتفاعات. ويظهر في الوقت نفسه عدم التوافق بين الدول الأوروبية واختلافاتها في التعامل مع الأزمة، وتنذر بتبعات قد تصل لحد العصف في الاتحاد وانفكاك عقد دوله وإلغاء عملته الموحدة.
إن الحرب الروسية الأوكرانية وإن أغرقت روسيا في المستنقع الذي من خلاله ستستنزف وتنهك، إلا أنها بينت في الوقت نفسه الضعف الذي يجتاح القارة العجوز، وأظهرت الخلافات السياسية بين قادتها، وأقرَّت احتياج أوروبا للبقاء تحت المظلة الأمريكية حفاظا على أمنها، وضمانا لاستمرار تدفق الطاقة لديها، وكاشفا عن احتمالية تصدع الاتحاد الأوروبي وانفكاك عقده وإلغاء عملته، وعاصفا ومستنزفا لاقتصاداته، وهذا ما ستظهره الأيام القادمة.
هذا هو النظام الرأسمالي الذي لا يقيم وزنا للبشر؛ القوي فيه يأكل الضعيف، ولا يعنيه سفك الدماء وزيادة الجوعى وتوقف الإمدادات وارتفاع تكاليف المعيشة ما دامت هذه الأمور تحقق تطلعات فئة مارقة تتحكم بمصائر الشعوب، وتنشر الظلم والقهر والجوع. نظام لا يوجد فيه نظرة إنسانية؛ فصديق الأمس قد يصبح عدو اليوم، يصدق فيهم قول الله تعالى: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾، وسيبقى العالم يكتوي بنار ظلمهم حتى يأذن الله بقيام الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي بدأت خيوط نور فجرها تبدد عتمة الرأسمالية الفاسدة وسوادها الكالح، وما ذلك على الله بعزيز.
بقلم: د. عبد الله ناصر – ولاية الأردن
رأيك في الموضوع