حل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم 25/08/2022 ضيفاً على النظام الجزائري في زيارة دامت ثلاثةَ أيام لإرساء "شراكة متجددة" بين الجزائر وفرنسا على خلفية انتهاء الحراك الشعبي وخمود زخمه وتداعياته، وضرورة الاتفاق على أرضية جديدة للتفاهم والتعاون.
ولكن من الواضح أنه ليس التعاون في المجال الاقتصادي، ومنه توفير الطاقة من غاز الجزائر لفرنسا وأوروبا على خلفية الحرب المشتعلة في أوكرانيا وما فرضتْه أمريكا على أوروبا من قطع الصلة في مجال الغاز مع روسيا، ليس هو فقط ما جاء من أجله ماكرون، فقد كان بادياً من خلال تشكيلة الوفد الفرنسي ومَن حضر الاجتماعاتِ من الجانب الجزائري من الإطارات الأمنية (خاصةً الأمن الداخلي والخارجي)، ومن خلال الاتفاقيات التي أُبرمت، أن التحديات التي باتت فرنسا تواجهها في مستعمراتها جنوب الجزائر أي في دول الساحل الأفريقي، خاصة على الصعيدين الأمني والعسكري، هي التي مثَّلت صلب اللقاءات وفحوى الزيارة. فقد وقَّع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ونظيرُه الفرنسي إيمانويل ماكرون في اليوم الأخير من الزيارة يوم السبت 27/08/2022 على اتفاقيات عدة تمثلت فيما يلي:
- اتفاق شراكة وتعاون مع معهد باستور في مجال الصحة.
- اتفاق شراكة علمية بين وزارتي التعليم العالي والبحث العلمي، ومنه تعزيز الشراكة القائمة بين البلدين.
- مذكرة نوايا بين وزارة الشباب والرياضة الجزائرية ومثيلتِها من الجانب الفرنسي.
- تفعيل "إعلان الجزائر من أجل شراكة متجددة" بين الجزائر وفرنسا.
وينص هذا الأخير على اتفاق البلدين على تدشين حقبةٍ جديدة من التفاهم، ومقاربةٍ ملموسة وبنَّاءة تُركِّز على المشاريع المستقبلية والشباب. كما ورد في الإعلان ذاته أن "الشراكة المميزة الجديدة" باتت "مطلباً يمليه تصاعدُ التقلبات وتفاقمُ التوترات الإقليمية والدولية". ومن الجلي أن هذا هو أهم ما ورد في الاتفاقات كلِّها. علماً أنه جاءت أيضاً ضمن الإعلان الأخير نفسِه تفاهماتٌ أخرى تتعلق بضرورة التنسيق لمواجهة التحديات العالمية الجديدة مثل الأزمات الإقليمية والعالمية وتغيُّر المناخ والحفاظ على التنوع البيولوجي والثورة الرقمية والصحة وغير ذلك.
وكلنا يذكر زيارة إيمانويل ماكرون للجزائر كمرشح للانتخابات الرئاسية في عام 2017، أي قبل أن يصبح رئيساً لفرنسا في المرة الأولى، التي قال خلالها: "الاستعمار جزء من التاريخ الفرنسي، إنه جريمة، جريمة ضد الإنسانية، إنه وحشية حقيقية وهو جزء من هذا الماضي الذي يجب أن نواجهَه بتقديم الاعتذار لمَن ارتكبنا في حقهم هذه الممارسات". وقد كلفتْه هذه التصريحاتُ حينها موجةً من الانتقاد والاستنكار في بلده من اليمين واليمين المتطرف.
ولكن بعدما صار رئيساً، وعلى ضوء التطورات السياسية التي أفضت إلى تنحي الرئيس السابق بوتفليقة عن الحكم في أعقاب الحراكِ الشعبي الذي اندلع في الجزائر يوم 22/02/2019، وما تمخض عنه من مجيء قيادة سياسيةٍ وعسكرية جديدة في الجزائر، وما نتج عن ذلك من تراجع كبير للجناح الفرنسي والزج بعدد من أبرز رموزه في السجون، تغير خطابُه بشكل ظهر عليه الكثير من التذمر والانزعاج، وصل إلى حد وصف النظام الجزائري حينها بأنه "نظامٌ عسكري - سياسي صلب (صعب)، تبون عالقٌ فيه". ولكن في الوقت ذاته حرص يومها على تجنيب شخص الرئيس تبون انتقاداتِه مؤكداً على وجود علاقة طيبةٍ وحوار جيد معه.
وكان مما نقلت صحيفة لوموند الفرنسية يوم 02/10/2021 من تصريحات ماكرون المثيرة التي أثارت حينها الكثيرَ من ردود الأفعال الغاضبة لدى أصحاب القرار في الجزائر، ما أدلاه في سياق لقاءٍ في فرنسا مع شبابٍ من أحفادِ بعضِ مَن تعاون مِن الجزائريين مع فرنسا إبان حرب التحرير الجزائرية (1954-1962)، معتبراً أن جزائر ما بعد الاستقلال قامت على "إرث من الماضي" حافظَ عليه "النظامُ السياسي - العسكري"، مضيفاً أن الأمر يتعلق بـ"تاريخ رسمي أعيدت كتابتُه بالكامل.. ولا يستند إلى حقائق"، بل "إلى خطاب يقوم على كراهية فرنسا". ولكن ما أثار الكثير من الامتعاض والاستنكار أكثر من غيره حينها هو تمييز ماكرون المقصود (بين السلطة والشعب) حين أعرب عن عدم اعتقاده بأن هنالك "كراهية لفرنسا" في أعماق المجتمع الجزائري، بل هي موجودة فقط لدى النظام السياسي - العسكري القائم على إرث من الماضي، مؤكداً أنه "من الواضح أن النظام الجزائري منهَك، أضعفه حراك 2019".
ولكن بعد نجاح النظام في إخماد الحراك الشعبي، وفي سياق إنشاء "جزائر جديدة" وفق رؤية المؤسسة الحاكمة في الجزائر، وبعد استتباب الأمر مجدداً لجناح الإنجليز من خلال عملية سياسية ذكية تمثلت في لعبة ركوب الحراك الشعبي بخدعة دَستَرته واعتباره المنقذ للبلد من "العصابة" الفاسدة التي كانت تحكم، بينما الحقيقة هي أن ركائزَ منظومةِ الحكم الفاسدة والمفلسة هي هي لم تتغير، وأن الزمرة الفاسدةَ التابعة للأجنبي والتي كانت تحكم قبل وصول تبون إلى الرئاسة هي نفسها التي تحكم الآن ولكن بثوب جديد، وبعد إيهام الشعب أنه تم الآن استكمال بناء مؤسسات "الجزائر الجديدة"، وأن البلدَ بات على عتبة إقلاع اقتصادي جديد. جاءت "مبادرة لم الشمل" التي أعلن عنها الرئيس تبون يوم 03/05/2022م بغرض "تقوية الجبهة الداخلية" بحسب قوله، لتُنبِئَ عن توافقاتٍ جديدةٍ قادمةٍ بين الأطراف المتصارعة على المصالح والنفوذ، على أساس تفاهماتٍ قديمة متجدِّدة! ما سوف يمكن المستعمِر وأزلامه من اقتسام الثروة والريع والمنافع من خلال الاستيراد باسم الاستثمار والشراكة والمشاريع الحقيقية والوهمية والصفقات وغيرها. ففي هذا السياق تماماً، ورغم كل ذلك التراشق والتلاسن والرسائل الكلامية المحسوبة والمفتعلة، حل الرئيس الفرنسي بالجزائر، مُظهراً الكثير من الود والرغبة في التقارب والتصالح.
ومن الواضح أنه بحكمِ تبعيةِ النظام في الجزائر للأوروبيين، وبحكم تضارب المصالح على خلفية التطورات المستجدة في مالي والوضع المتأزم في ليبيا المجاورة والأحداث الجارية في دول جنوب الصحراء عامةً، فضلاً عن الأحداث السياسية التي شهدتْها الجزائر نفسُها على الساحة الداخلية، وكذا الوضع الاستثنائي للقيادة العسكرية الجزائرية الناجم عن الصراع على النفوذ في الداخل، الأمر الذي أجج الطموحَ الأمريكي القوي لتعزيز حضور أمريكا في شمال أفريقيا وفي منطقة الساحل الأفريقي الغنية بالثروات على الصعيد العسكري والسياسي والاقتصادي. فبالنظر إلى كل ذلك، تحركت أمريكا لاستغلال الظرف والتطورات السياسيةِ التي حدثت خاصةً في أعلى الهرم في الجزائر مؤخراً، خاصةً بعد أحداث 2019. وهو ما بات يشكل تحدياً كبيراً لمصالح ونفوذ الأوروبيين والفرنسيين بوجه خاص في المنطقة.
لذا جاءت زيارةُ ماكرون التي أبدى خلالها الكثيرَ من الود تجاه الجزائر وشعبها لمواجهة كل تلك التحديات، متغاضياً عن كل تصريحاته النارية السابقة تجاه المنظومة الحاكمة في الجزائر. ولكنها جاءت تعزيزاً للتفاهم وتتويجاً لـعملية "لمِّ الشمل وتقوية الجبهة الداخلية" التي أعلنت عنها الرئاسة الجزائرية، والتي تَكشف كما أسلفنا عن عملية تصالح جديدةٍ بين الزُّمر المتصارعة على المصالح والنفوذ، الأمر الذي سيمكن طرفي الصراع من اقتسام الثروة والريع من خلال الاستيلاء على المداخيل خاصةً من العملات الأجنبية، ولكن على أرضية جديدة تعكس تراجع نفوذ فرنسا وأزلامها في الجزائر.
كما لا يخفى أن هذا الموقف وهذه "الشراكة المتجددة" تتفق تماماً مع الرغبة الملحة للأوروبيين في الاستعانة بجيش الجزائر، بل في تسخيره للمحافظة على الاستقرار والأمن في المنطقة وعلى نفوذهم السياسي والاقتصادي في دول الساحل الأفريقي وتحديداً في الجوار الإقليمي للجزائر جنوباً، الأمر الذي يمكن الاستعمار الأوروبي من مواصلة الاستحواذ على كنوز وثروات المنطقة من الذهب والمعادن النادرة وغيرها، فضلاً عن النهب باسم التعاون في مجالات الطاقة والتجارة وتسويق المنتَجات وتوفير الاستثمارات للشركات الأوروبية في الجزائر نفسِها، وكذلك مواصلة التنسيق الأمني الاستخباراتي في محاربة الإسلام، والتهريب وفي موضوع الهجرة، وغير ذلك.
رأيك في الموضوع