إن الفراغ اصطلاح في السياسة الدولية، يعني عدم القدرة على العمل وعدم القدرة على الثبات، أي أن هناك قوة ولكنها لا تظهر بالمظهر اللائق بها وبالقدرة المناسبة لها، وهذا قد ينعكس على البلاد في جوانب عدة، كأن يكون هناك فراغ سياسي أو عسكري أو استراتيجي.
أما الفراغ الاستراتيجي الذي نحن بصدد الحديث عنه: فهو عدم استقرار ناتج عن مشاكل وأمور في البلد تواجه أمن الدولة الداخلي وسلامتها في الخارج كإيجاد تيارات متشاكسة في البلد تصطدم مع بعضها اصطدامات مدية إما بالسلاح أو بما هو دونه، فينشأ عن ذلك فراغ، أي تصبح الدولة وكأنها غير موجودة، وفي هذه الحالة يصبح البحث عن دولة تؤمن الاستقرار أمراً طبيعياً، فتتقدم قوة لسد هذا الفراغ؛ إما بأشخاص من الداخل يستلمون الحكم بتأمين الاستقرار بشكل ذاتي أو استيلاء دولة خارجية على البلاد تؤمن الاستقرار، وإما أشخاص من الداخل تأتي بهم قوة خارجية لتحكم وتسندهم ليوجدوا الاستقرار ويسدوا الفراغ.
وإذا نظرنا إلى واقع السودان على ضوء مفهوم الفراغ الاستراتيجي نجد أنه قد حكم بقوة خارجية أوجدت الاستقرار الذي تنشره هذه القوة وهي بريطانيا (المستعمر القديم)، وإلى أن جاءت فترة ما يسمى بالاستقلال 1956 سلمت بريطانيا قوى داخلية حكم البلد بإسناد مباشر منها تمثل في التربية السياسية للطبقة الحاكمة ومعظم الطبقة السياسية غير الحاكمة؛ فقد أشربوا النظام الرأسمالي العالمي الذي حكمت به بريطانيا السودان بشكل مباشر، وكانت القيادات العسكرية على الشاكلة ذاتها في التبعية لبريطانيا كما هي القيادات السياسية.
واستمر الأمر بالبلاد وهي تُحكم بالوكالة إلى أن جاءت أمريكا بانقلاب النميري عام 1969 لتصبح بذلك السيطرة السياسية والأمنية لها، مروراً بحقبة عمر البشير وإلى اليوم عن طريق عملائها في قيادة الجيش برئاسة البرهان. أما بريطانيا وكعادة المستعمرين فلم تكن تتفرج، وإنما كانت توجه ضربات عبر الأوساط السياسية التابعة لها متمثلة في القوى المدنية (قوى الحرية والتغيير) للوصول إلى الحكم ومحاولة الانفراد أو الحد الأدنى بالمشاركة كما حدث في الفترة الانتقالية آب/أغسطس 2019، قبل أن يطيح بهم عسكر أمريكا في انقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021.
والآن كل هذه القلاقل السياسية والأمنية والاقتصادية هي نتيجة صراع طرفي الاستعمار (بريطانيا وأمريكا) عن طريق أدواتهم من المدنيين والعسكر، إضافة إلى بعد آخر يهدد أمن البلاد بكاملها متمثلاً في السعي الدؤوب لتمزيق ما تبقى من البلاد، تلك الخطة التي يتفق عليها طرفا الصراع حيث ساهما فيها بشكل واضح بداية منذ تأسيس حركة التمرد الأولى في جنوب السودان (الاناتيا 1955) بدعم مباشر من بريطانيا قبل خروجها، إلى أن وصلت هذه الحركة إلى المطالبة بالحكم الذاتي في مفاوضاتها مع حكومة المركز، وأكملت أمريكا المشروع عن طريق عميلها جون قرنق مؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1983 ليكتمل المشروع على يد عميلي أمريكا البشير وقرنق بتوقيع اتفاقية التمزيق نيفاشا، وصولاً إلى فصل جنوب السودان في 2011، ما انعكس سلباً على السودان اقتصادياً وأمنياً وشكل سابقة خطيرة مهّدت الطريق لباقي حركات التمرد للمناداة بالحكم الذاتي الذي هو مقدمة طبيعية في طريق التمزيق؛ بالمناداة بحق تقرير المصير، وهذا هو الذي تسعى أمريكا وبريطانيا اليوم للمناداة به عن طريق عملائهم في الحكومة وحركات التمرد التي أعطيت حكماً ذاتياً في كل مناطق النزاع، ما جعل الحديث عن حق تقرير المصير لهذه المناطق التي تشهد صراعاً مسلحاً أو صراعاً قبلياً متعمداً كما نراه في أقاليم السودان المختلفة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً؛ ما يهدد ما تبقى من وحدة البلاد.
إذن رأينا كيف أن استمرار الفراغ بإيجاد قوة محلية مسنودة من أمريكا أو أوروبا لتنفيذ أجنداتهم المتمثلة في استمرار إبعاد الإسلام بوصفه نظاماً للحكم والسعي لتمزيق ما تبقى من البلاد ونهب الثروات، ولا يختلف طرفا الاستعمار إلا في الأدوات التي تنفذ ذلك.
إذن هذا هو حالنا منذ أن سمحنا بأن تدار بلادنا من الخارج بواسطة أدوات محلية؛ عسكرية كانت أو مدنية، حيث وصل إلى الشلل الكامل وحالة اللادولة التي تعيشها البلاد الآن.
وبالتالي لن يملأ هذا الفراغ بشكله الصحيح الذي يعالج المشكلات ويضع حداً لتدخلات الاستعمار في بلادنا إلا بأن تملأه دولة مبدئية تقوم على أساس الإسلام في كل تفاصيلها فتعدل بين الناس بأحكام الإسلام وتنزع الفتن ودعاوى الجاهلية القبلية والجهوية وتقطع أيدي الكفار المستعمرين وسفاراتهم من التدخل في شؤوننا ونهب ثرواتنا وزعزعة أمننا، وهذا لا يكون إلا بأن نشمر عن ساعد الجد لإقامة الخلافة، الكيان الذي ارتضاه لنا الله عز وجل، وهو وحده الكيان الذي سيملأ الفراغ الاستراتيجي بالحق والعدل، فهو أحكام من لدن حكيم خبير ولمثل هذا فليعمل العاملون.
بقلم: د. محمد عبد الرحمن – ولاية السودان
رأيك في الموضوع