شهدت الجزائر العاصمة يوم 05/07/2022م بمناسبة ذكرى الاستقلال عن المستعمِر الفرنسي حدثاً استثنائياً تمثل في استعراض عسكري ضخم غيرِ مسبوقٍ بالسلاح الروسي، شاركت فيه كافة القوات المسلحة، دُعي إليه بعض رؤساء الدول خاصةً الأفريقية وحضره محمود عباس وإسماعيل هنية ووزير الخارجية السوري، وأُريد منه إبراز العضلات محلياً وإقليمياً وأن يكون حدثاً بارزاً وتأكيداً على أن الجزائر تجاوزت كل مآسيها وأصبحت الآن قوة ضاربةً يحسب لها ألف حساب في المنطقة في مواجهة التحديات الخارجية، ومحطةً مهمةً للتأكيد على اللحمة بين الشعب وجيشه وعلى دور الجيش في التصدي للأعداء والحفاظ على الوطن والدولة ومكتسبات ثورة التحرير، ضمن مهامه الدستورية وليس خارجها. فيما بدا أيضاً أنه رسالة قوية تستهدف الداخل مفادها أولاً: أن الجزائر الجديدة صارت واقعاً وأن البلد تجاوز كل تداعيات الحراكِ الشعبي الأخير (شباط 2019م) الذي كان من أبرز مطالبه إبعاد العسكر عن السياسة وإنهاء الفساد وممارسات العصابة السابقة، وثانياً: أن مبادرة لم الشمل ورص الصفوف التي أطلقها تبون لغرض تعزيز دعائم الجبهة الداخلية قد آتت أُكلها، في انتظار إقلاعٍ اقتصادي قريب.
ويجري في هذه الآونة عبر كافة أجهزة الدولة وكل المنابر الإعلامية وفي المدارس والمساجد التركيزُ على تثبيت مفهوم الوطنية في عقول الناشئة وغرسِ المشاعر الوطنية في قلوب الناس من خلال الخطاب الذي يمزج بينها وبين الإسلام، بواسطة تسخير العلماء وأساتذة الجامعات والخطباء المأجورين وبتوظيف النصوص وأحداث التاريخ والجغرافيا بشكل مغرض خبيثٍ يُقصي الإسلامَ عن السياسة ويَـلبِس على عامة الناس دينَهم كما لم يحدث من قبل، ليصبح عكسُ الوطنية هو الخيانة، وكأنَّ المسلم سوف يحاسب يوم القيامة على أعماله أمام الوطن! والهدف من ذلك هو علمنةُ الحياة وإبعاد الشريعة وضرب الخصوم بتقليص نفوذِ أزلام فرنسا المنافسين للزمرة النافذة من أتباع الإنجليز المتحكمين حالياً في مفاصل الدولة، والفصل بين شعوب المنطقة ومنع التكامل بينها على أي صعيد، كما هو جارٍ الآن بين المغرب والجزائر، فضلاً عن تسخير أبنائها مستقبلاً في مآرب النُّظم العميلة بتوظيف الإسلام الكامن في الناس لخدمة المستعمِر الأوروبي ودرء مخاطر الاستعمار الجديد، باسم الدفاع عن الوطن ومكافحةِ ما سمي الإرهاب والنضالِ من أجل الهوية.
إن وصف شمال أفريقيا بالمغرب العربي كان قد استحدث في أواخر أربعينات القرن الماضي، وإن هذه التسمية للمنطقة بناءً على القومية العربية ليست فكرةً بريئة. وكانت بريطانيا قد استعملت خدعةَ القومية العربية النتنة في عملية قلب الأوضاع السياسية في البلاد الإسلامية إلى جانب الفكرة الوطنية، خاصةً منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، تماماً كما أوجدت القومية التركية وغيرَها من القوميات والعرقيات بغرض تقطيع أوصال الأمة والقضاء على دولة الخلافة. علماً أن المغرب الإسلامي كما سمَّاه المسلمون، لم يكن خارج هذا العبث البريطاني بالرغم من أنه كان قد اقتُطع من الدولة العثمانية قبل ذلك بعقود على يد فرنسا الاستعمارية.
وبعد الحرب العالمية الثانية شرعت أمريكا في ترتيب العالم حسب ما أملتْه قواعد المنتصِر، وكان من أهدافها في بلاد المسلمين تصفية الاستعمار الأوروبي لتحل محله، فبدأت بمصر مع بداية خمسينات القرن الماضي نظراً لِما تمثله من ثقل في الشرق الأوسط، فحاكت انقلابَ الضباط الأحرار على الملك فاروق الموالي لبريطانيا، ثم تبنت فكرة "تقرير مصير الشعوب" بالتنسيق مع السوفيت وجعلت الأمم المتحدة منبراً لها لغرض تصفية ما بقي من استعمار أوروبي في البلاد الإسلامية.
وما يهمنا في هذا المقام هو شمال أفريقيا حيث إن فرنسا ركزت استعمارَها على الجزء الأكبر منه (الجزائر) الذي يزخر بالموارد والخيرات قصد ضمه، ورسمت له خرائط بالتنسيق مع بريطانيا، ولكن أمريكا كانت قد عقدت العزم منذ منتصف القرن الماضي على إخراج كليهما منه، عسكرياً في مرحلة أولى، فأوعزت إلى عميلها عبد الناصر بالتحرك تجاه البارزين من قادة الحركات السياسية والثورية الجزائرية لجمعهم في القاهرة تحت عباءة جبهة التحرير الوطني كممثل شرعي ووحيد للشعب وتحت سقف الفكرة الوطنية، لغرض توفير الدعم السياسي والعسكري من أجل تفجير الثورة، وكان أغلبهم من الذين تكونوا في الوسط السياسي الفرنسي، مع تباين مواقفهم من مسألة التحرر من قبضة المستعمِر، إذ كان كل منهم يحمل نظرةً ما بالرغم من أن انتماء ومحركَ تلك التيارات وأتباعها إنما هو الإسلام.
وإذ تبين الآن أن أولئك القادة لم يكونوا على مستوى من الوعي السياسي يمكّنهم من طرد نفوذ المستعمِر بشكل نهائي، فقد أدرك أهل الجزائر مبكراً بفضل الإسلام الكامن فيهم، أن أهداف الثورة على فرنسا جرى في الحقيقة التلاعبُ بها من طرف زمر من السياسيين من بني جلدتهم مرتبطة هي الأخرى بالمستعمر ثقافياً وسياسياً، بحيث لم يتحقق في نهاية المطاف ما كان يصبو إليه الشعب المسلمُ الثائر رغم كل التضحيات!! وتبين أيضاً بعد ستة عقودٍ من تاريخ خروج فرنسا عسكرياً عام 1962م ونشوء الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، أنه لم يتحقق لأهل الجزائر شيء يذكر من ذلك التحرر، وخاصة بعدما تأكد لدى الكثير من رجالات الثورة أنفسهم مدى الارتباط بالجهات الدولية وتبعية مَن أتى بهم (الاستقلال) ليحكموا الجزائر، للمستعمر الأوروبي نفسه. ولكنهم أدركوا ذلك بعدما تم إبعادهم نهائياً عن مراكز القرار بسبب الخلافات السياسية على خلفية الارتباطات الخارجية، وبعدما اكتشفوا حجم الوهم والمأساة والخديعة.
والحاصل هو أن فكرة القومية العربية أنشأتها بريطانيا ورعتها وتبنتها لإسقاط الخلافة، ثم استخدمتها أمريكا فيما بعد عن طريق جمال عبد الناصر للهيمنة على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهذا ما لم يتنبه له الكثير من السياسيين والثوريين الجزائريين، وراحوا قبل وبعد (الاستقلال) يثيرون الشكوك في ماضيهم، بل يتصارعون على مسألة الانتماء والهوية ويقومون بردود أفعال من جنس الفعل الذي قام به المستعمر بغرض التقسيم، كقول بعضهم مثلاً نحن أمازيغ ولسنا عرباً.
وفي نهاية المطاف غلبت رؤيةُ المستعمِر نفسه في الجزائر كما في غيرها، إذ وصلوا إلى ابتكار هوية جديدة لأهل البلاد مبنيةٍ على العلمانية والوطنية، التي تقصي الإسلام، بل تبعده تماماً عن طاولة البحث، حيث تذوب بزعمهم كل الانتماءات بما فيها الدينية، ليصبح الإسلام (شكلاً) أحدَ عناصر الهوية ولم يعد هو الهوية! وبقيت الأزمة دون حل إلى يومنا هذا، بل صاروا ينبشون في مراحل ما قبل الإسلام لعله يعضد الطرح المناسب لما أسموه عناصر الهوية والثوابت الوطنية. وستبقى المشكلة قائمةً، ويستمر توظيفُ جدلِ الهوية في خدمة مآرب المستعمِر في هذه الدول الوطنية صنيعة الغرب إن لم يُنظر للأمر من زاوية العقيدة الإسلامية بوصفها عقيدةً سياسية، وأن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، إذ لم يُطرح موضوع الهوية عند الأمة الإسلامية في عز نهضتها قط رغم تباين قوميات شعوبها واتساع رقعة البلاد التي كانت تخضع لحكمها، ولم يتنكر الناس في بلاد المسلمين لبعضهم على أساس الانتماء للعرق أو الأرض، حتى تدخّل المستعمِرُ البغيض بينهم، حيث لم يكونوا ينظرون لأنفسهم كأمازيغ أو عرب أو أكراد أو أتراك، فضلاً عن أن يتناحروا على أساس القُطرية أو الوطنية الدخيلة أو غير ذلك. بل كانوا مُجمعين على أن هويتهم التي بها سادوا لقرون عديدة، إنما هي عقيدة الإسلام وشريعته، وليست شيئاً آخر غير ذلك مطلقاً. يجب التذكير هنا في هذا الصدد بأن مَن كان يصدُّ حملات الصليبيين الأوروبيين على مدن وشواطئ شمال أفريقيا منذ بدايات القرن السادس العشر الميلادي إنما هو الدولة العثمانية أيام عزها، التي كان جل المغرب الإسلامي وأهله جزءاً منها، فهل لو عاود الغربيون حملاتِهم الاستعمارية مجدداً ستصمد جيوشُ الأمة في هذه الكيانات الوطنية الهزيلة في وجوههم تحت إمرة قيادات متآمرة خانعة؟ وهل ستتمكن من الذود عن بلاد المسلمين ودحر الأعداء والغزاة؟ نعم بالتأكيد، ولكن بشرط أن الفئة الواعية المخلصة المحبة لله ولرسوله ﷺ من أبناء هذه الجيوش سوف تتمكن سريعاً من إزاحة العملاء عن المشهد. هذا ما يجب العمل له وما نعول على حدوثه بإعلان قيام دولة الخلافة، ولكننا نرجوه الآن قبل الغد، وما ذلك على الله بعزيز.
رأيك في الموضوع