منذ مائة عام أو يزيد، والاضطراب يعصف بأمة الإسلام من كل جانب؛ سلسلة من الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدستورية والفكرية والثقافية والخُلقية والتعليمية... ولم يبق شيء في حياتنا إلا وقد اضطرب اضطرابا شديدا، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
والاضطراب في معاجم اللغة والمعاني هو الاهتزاز في غير انتظام، ومنه اضطراب الميزان. واضطراب النُّموّ: خلل في مجموعة من الوظائف العقليَّة والجسميَّة. والاضطراب النطقيّ: قصور في نطق الأصوات اللُّغويَّة مثل التأتأة واللثغة والفأفأة وغيرها. واضطرابِ البَحر عند تلاطم أمواجه. وهكذا فكل شيء يخرج عن مألوفه وصنعه وسمته وفطرته يكون فيه اضطراب. وينسحب هذا على اضطراب السلوك، واضطراب الشخصية، واضطراب الأعصاب والعقل والعاطفة، واضطرابات الطقس، وقائمة الاضطرابات طويلة.
وإذا نظرنا إلى أحوالنا اليوم من زاوية الاضطراب، فإننا نرى العجب العجاب. ولن نستطيع في مقام كهذا أن نذكر الاضطرابات التي عصفت بأمتنا جميعا، ولكننا سنأخذ مثالا واحدا تتجلى فيه شدة الاضطراب السياسي، وهو السودان، وسيكون بإمكاننا تعميم قراءة الاضطرابات فيه ونتائجها على اليمن ولبنان وسوريا والعراق وأفغانستان وجميع دويلات الضرار في البلاد الإسلامية.
فبعد استقلال السودان المزعوم عن الإدارة البريطانية المصرية المشتركة عام 1956، اتخذ شكل الحكم الجمهوري، وتتكون السلطة التنفيذية من الرئيس ونائبين له، ومجلس للوزراء يعينه الرئيس الذي يشغل منصب رئيس مجلس الوزراء أيضا، أما السلطة التشريعية فيمثلها برلمان ينتخب أعضاؤه لمدة أربع سنوات. وانظروا ماذا حصل للسودان بعد أن ولي أمره دعاة القومية العربية والوطنية والأفرقة البغيضة، وقد ارتفع عدد محاولات الانقلاب فيه إلى 11 محاولة على مدار 64 عاما!
- أولها انقلاب عام 1957 بقيادة إسماعيل كبيدة، ضد حكومة إسماعيل الأزهري.
- ثانيها انقلاب إبراهيم عبود عام 1958 ضد حكومة ائتلاف حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي.
- ثالثها انقلاب جعفر نميري عام 1969، وتخلل فترة النميري أربعة انقلابات فاشلة:
1- انقلاب هاشم العطا عام 1971 الذي تمكن من الاستيلاء على السلطة ليومين فقط، ثم أعدم ومعه عدد من قادة "الحزب الشيوعي".
- انقلاب حسن حسين عام 1975، ولقي وزمرته مصير هاشم العطا ورفاقه.
- انقلاب محمد نور سعد عام 1976، ومحاولة انقلاب أخرى عام 1976 بمشاركة عناصر تسللت عبر الحدود من ليبيا إلى السودان، ودارت معارك في شوارع الخرطوم، بين القوات الحكومية وقوات الانقلابيين، أسفرت عن مقتل مئات من الانقلابيين، فيما تم لاحقا إعدام قائد الانقلاب.
- رابعها انقلاب عمر البشير عام 1989 الذي تم بمساعدة "الجبهة القومية الإسلامية" بزعامة حسن الترابي. وتخللت فترة البشير محاولتا انقلاب فاشلتان:
1- انقلاب عبد القادر الكدرو، ومحمد عثمان عام 1990، وأعدما كذلك مع 28 ضابطا مشاركا.
- انقلاب حزب البعث عام 1992 بقيادة أحمد خالد الذي سجن مع رفاقه.
وبقي البشير في السلطة إلى أن تم عزله بانقلاب عسكري في العام 2019، بعد احتجاجات شعبية استمرت لأشهر، ثم تولى عبد الفتاح البرهان، رئاسة المجلس العسكري، ومعه الجنرال حميدتي. وأثناء فترة حكم المجلس العسكري 2019، أعلن المجلس عن إحباط انقلابين:
1- واحد من هاشم عبد المطلب هذا العام.
- وانقلاب آخر لم يعلن عن قادته، بل أعلن أنه قد تم القبض على بعض المتورطين في المحاولة الانقلابية وإخضاعهم للتحقيق لمعرفة تفاصيل المخطط ومدبريه والقائمين عليه.
وقد تابع الجميع ما حصل من انقلاب البرهان والمجلس العسكري على رئيس الوزراء عبد الله حمدوك والحكومة المدنية، ثم تدخل الوسطاء المحليين والدوليين لمصالحة المكونين العسكري والمدني بعد مظاهرات شعبية واسعة سقط خلالها قتلى وجرحى، والله أعلم إلى ما ستؤول إليه الأمور في هذا البلد المضطرب.
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَل، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «خُذُوا الْعَطَاءَ مَا دَامَ عَطَاءً، فَإِذَا صَارَ رِشْوَةً فِي الدِّينِ فَلَا تَأْخُذُوهُ، وَلَسْتُمْ بِتَارِكِيهِ؛ يَمْنَعْكُمُ الْفَقْرَ وَالْحَاجَةَ، أَلَا إِنَّ رَحَى الْإِسْلَامِ دَائِرَةٌ، فَدُورُوا مَعَ الْكِتَابِ حَيْثُ دَارَ، أَلَا إِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّلْطَانَ سَيَفْتَرِقَانِ، فَلَا تُفَارِقُوا الْكِتَابَ، أَلَا إِنَّهُ سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَقْضُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا لَا يَقْضُونَ لَكُمْ، إِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ قَتَلُوكُمْ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أَضَلُّوكُمْ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: «كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، نُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرَ، وَحُمِلُوا عَلَى الْخَشَبِ، مَوْتٌ فِي طَاعَةِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ».
وفي صحيح مسلم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا». قال النووي: «وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» مَعْنَاهُ: ولَكِنَّ الْإِثْمَ وَالْعُقُوبَةَ عَلَى مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ لَا يأثم بمجرد السكوت، بل إنما يأثم بالرضى به أو بأن لا يَكْرَهَهُ بِقَلْبِهِ أَوْ بِالْمُتَابَعَةِ عَلَيْهِ.
إن الذي حصل في السودان من اضطرابات سياسية في أعلى هرم السلطة، وما حصل من اضطرابات على جميع الصعد في دويلات الضرار القائمة في البلاد الإسلامية بعد هدم الخلافة العثمانية، لهو ضريبة باهظة التكاليف دفعها المسلمون نتيجة سكوتهم عن أولئك السفهاء الذين فرقوا بين الكتاب والسلطان، ولم يدوروا مع الكتاب حيث دار، وأوردوا أمة الإسلام موارد الهلاك، وجعلوها في ذيل الأمم تقتتل على لعاعات الدنيا الفانية.
وعليه فإن واجب المسلمين اليوم أن يدوروا مع الكتاب لإعادة التحامه مع السلطان بعد طول فراق، وأن يقفوا صفا واحدا في وجوه هؤلاء الظلمة المضطربين من الدعاة على أبواب جهنم، وأن يعملوا مع العاملين لإعزاز هذا الدين بإقامة دولة خلافة المسلمين الثانية الراشدة على منهاج النبوة على أنقاض ممالك دويلات الضرار الزائفة، فالخلافة هي التي ستقضي على اضطراباتهم وانقلاباتهم وتبعياتهم للغرب الكافر، وهي التي ستعيد للمسلمين توازنهم، وتمنع الاضطراب عنهم وعن العالم أجمع عندما يحكمه الإسلام. وكفانا مائة عام أو يزيد اضطرابا وتفككا وفقرا وجهلا ومرضا، لم يحصل مثله في تاريخ أمتنا المجيدة، وكفانا ذلا وهوانا! فمن ينقذنا من الاضطراب الذي أصابنا، وغضب الله الذي نزل بنا؟ فيا أيها المسلمون: هبوا لإنقاذ أمتكم، ويا أيتها الجيوش: تحركوا لحسم الموقف لصالح الإسلام والمسلمين في انقلاب واحد لا ثاني له، وكفاكم تخبطا مع أولئك المضطربين، واعلموا أن الله ينصر من ينصره، إنه قوي عزيز، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
رأيك في الموضوع