بالرغم مما حققه النظام الرأسمالي من تقدم هائل في مجالات عديدة منذ نشأته، إلا أن الأساس الذي قام عليه كان ولا يزال يهدد بانهياره، كما أن الطمع والجشع الذي تميز به قادة هذا النظام أدى إلى إيجاد أخطاء جوهرية في مسيرة النظام تعمل بشكل مستمر على انهيار هذا الصرح. ولا تزال الأزمات المتتالية كما هي جائحة كورونا الأخيرة تكشف مرة تلو الأخرى عن مظاهر انهيار هذا الصرح المتهاوي.
أما من حيث الأساس الذي بني عليه النظام الرأسمالي والقائم على فكرة الحل الوسط وفصل الدين عن الحياة، فقد أدى إلى إيجاد نظام مستعد أن يساوم على أي قضية مقابل منفعة آنية، فجعل المصلحة الآنية أو المصلحة المدركة خلال فترة زمنية هي الغاية والهدف بغض النظر عن العواقب. أما القواعد التي بني عليها النظام نفسه فقد ثبت بما لا يقبل الشك أنها قواعد خاطئة وفيها مكمن انهيار النظام ولو بعد حين. فقاعدة الندرة النسبية التي اعتبرت أن ما يحتاجه الإنسان لسد حاجاته من سلع وخدمات لا تكفي لجميع السكان، قد أدت إلى نشوء طبقة فقيرة تكبر باستمرار وطبقة غنية مترفة يقل حجمها باستمرار. ومن ثم قاعدة القيمة وميكانيكية السوق التي رسخت توزيعا ظالما للثروات جعلها تتكدس بأيدي القلة الغنية ويحرم منها عامة الناس الذين تحولوا إلى عبيد في النظام الرأسمالي. وبعد أكثر من 200 عام على تطبيق النظام الرأسمالي عمليا في كثير من الدول وصل مرحلة العولمة التي جعلت ثروات العالم وأمواله تتكدس بأيدي فئة قليلة ظالمة بينما يعيش أكثر سكان العالم حالة من الضنك والفقر والعنت.
وعلاوة على القواعد الأساسية التي كانت ولا تزال سببا في خلق مجتمعات غير متوازنة ماليا تهدد النظام بانهيار سحيق، فقد عمد أرباب الرأسمالية إلى مجموعة من الأعمال سارعت في الكشف عن عواره والتسريع في انهياره. ومن أهم هذه الأعمال كان فصل الدولار ومن ثم النقد في العالم كله عن القاعدة الذهبية التي كانت سببا دائما لاستقرار قيمة النقد في العالم كله، وذلك حين قررت أمريكا إلغاء قاعدة بريتون وودز عام 1972 لتجعل من الدولار عملة مستقلة تماما عن الذهب، وفرضت هذا الفصل على معظم دول العالم. ولم تكتف أمريكا بذلك بل عادت وفصلت معدل النمو في المال المتداول عن معدل النمو في الاقتصاد والإنتاج. وقد أدى هذان العملان إلى إيجاد ما عرف بالاقتصاد الوهمي الافتراضي مقابل الاقتصاد الحقيقي، حيث إن الاقتصاد الوهمي يمثل مجموع الثروات المالية والتي تتشكل من نوعين رئيسين من المال؛ الأول هو المال الربوي الناتج عن نمو المال بواسطة الربا وبغض النظر عن الناتج الحقيقي المقابل للزيادة في المال الربوي. والنوع الآخر هو المال الاسمي (الافتراضي) والمتمثل بقيمة الشركات والسلع في الأسواق المالية وليس في أسواق البيع والشراء والتجارة. وقد تراكم هذا المال الناتج عن الربا وعن القيم الاسمية الوهمية إلى أن قارب 500 تريليون دولار في الوقت الذي لا يزيد فيه حجم الاقتصاد العالمي عن 20% من هذه القيمة. أي أن المال الوهمي يزيد 5 أضعاف المال الحقيقي على مستوى العالم. وهذا الواقع من شأنه أن يؤدي إلى التسريع من انهيار النظام المالي والاقتصادي برمته خاصة حين تحصل أزمات حقيقية تؤدي إلى حتمية استعمال أدوات الاقتصاد الحقيقي والتي لا تعكس مطلقا حجم المال الوهمي.
وقد جاءت جائحة كورونا التي شكلت أزمة حقيقية أدت إلى انقطاع سلسلة التزويد بالمنتجات من مكان إنتاجها إلى مكان استهلاكها، وفرضت استهلاكا آنيا وسريعا ومكثفا للخدمات الصحية بما فيها الدواء وأجهزة التنفس وأدوات الوقاية والأطباء والأسرة في المستشفيات. وقد ظهر العجز الواضح في جميع الدول بدون استثناء وأكثرها الدول الرأسمالية ذات الأموال الوهمية الضخمة. وللتغطية على هذا العجز الفاضح استمرت الدول بضخ أموال أكثر، وهو علاج فيه الكثير من الخداع، إذ إنه لا يعالج حقيقة المشكلة وهي تخلف نظام الإنتاج وتوزيع الخدمات بالمقارنة مع كمية المال. فالمشكلة ليست قلة المال، ولكن هي في الحقيقة كثرة المال الوهمي الذي غطى على ضعف الاقتصاد الحقيقي. فكانت الغاية من ضخ المال الإضافي هي تخدير الشعوب وتسكين أوجاعها إلى حين، حتى لا تفقد ثقتها كاملة بالنظام وتعمد إلى الإطاحة به من أساسه. ومع ذلك فإن ضخ الأموال وتوزيعها على الناس بشكل مكثف لم يساعد في عملية استعادة الثقة بالنظام الرأسمالي، بل على العكس؛ فقد استشرت نظريات المؤامرة، وعزف الكثير من الناس عن تناول العلاجات واللقاحات التي تم إنتاجها في وقت قياسي. ولا يزال كثير من الناس يعتبرون أن هناك منظمات وشركات رأسمالية عظمى قد استغلت الجائحة لمصالحها الشخصية. فشركات الأدوية العملاقة زادت أرباحها وارتفعت أسهمها بشكل فلكي، وشركات التكنولوجيا الرقمية أثرت ثراء فاحشا حيث وصلت قيمة شركات لا يتجاوز عددها أصابع اليد أكثر من 12 تريليون دولار منذ بداية الجائحة. وما زاد الطين بلة أن ضخ الأموال بكميات هائلة زادت عن 10 تريليون دولار خلال أقل من عامين، أن وصلت أرقام التضخم المالي في الدول الرأسمالية الكبرى مثل أمريكا إلى أرقام قد تغدو غير قابلة للسيطرة عليها. وكما كان الحال في أزمة عام 2008-2010 التي أدت إلى تهاوي كثير من الشركات الكبرى، فإن أزمة كورونا مرشحة أن تؤدي إلى انهيار أكبر خاصة وأنها أصابت قطاعات كثيرة من الاقتصاد الحقيقي كالصحة والتعليم والسياحة والصناعة والغذاء. والأهم من كل ذلك أنه لا تزال الحكومات في الدول الرأسمالية تركز في علاجها على المال الوهمي وزيادة كميته بدلا من التركيز على الاقتصاد الحقيقي الملموس، ذلك أن أصحاب رؤوس الأموال الكبرى مثل العائلات المتحكمة في النظام البنكي العالمي خاصة الأمريكي لا يهمها إلا زيادة نماء المال وتكديس القناطير المقنطرة من الدولارات.
والحاصل أن النظام الرأسمالي يعاني من مشكلة جذرية في أساسه، ومشكلة عصية في منهجه في فصل نمو المال عن نمو الاقتصاد، ومشكلة إجرائية في علاج الأزمات. وبالتالي فإنه كلما تعرض إلى أزمة خانقة هوى صرح من صروحه العالية، وما هي إلا مسألة وقت حتى تتهاوى جميع صروح النظام الرأسمالي برمته وينكفئ إلى سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، فإذا احتاجه على وجه الحقيقة لم يجده شيئا، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْـآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
رأيك في الموضوع