إن الأحداث التي عصفت بقطاع غزة مؤخرا وما صاحبها من هياج إعلامي محليا وعالميا، تستحق منا وقفة تأمل وتدبر، حيث بدأت شرارتها من بؤرتين: المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، ولخصوصية المسجد الأقصى، وكونه ميزان الحرارة لأهل فلسطين وللمسلمين جميعا، ويتردد صدى ما يحصل فيه في البلاد الإسلامية جمعاء، ويحدث أثرا عميقا في نفوس عامة الناس وخاصتهم، وكذلك فإنه يزيد من شوق الضباط والجنود في جيوش المسلمين لتحريره والصلاة فيه، بل وتحرير فلسطين كاملة وباقي بلاد المسلمين المحتلة.
وهذه الوقفة، بالرغم مما فيها من محن ومآسٍ تدمي القلب وتملؤه حزنا على فقد الأرواح وعظيم الجراح، إضافة إلى دمار الممتلكات والرعب ونقص الغذاء والدواء وانقطاع الكهرباء، وخذلان الجيران الأقربين والأبعدين، إلا أنها قد حملت معها منحا كثيرة، خففت من وقع تلكم المحن على نفوس أهل فلسطين بخاصة، ونفوس المسلمين بعامة، وأعطت العاملين لنصرة الإسلام والمسلمين أملا جديدا يحفزهم على مواصلة طريق النهوض بهذه الأمة الكريمة حتى يتحقق لها النصر المبين على أعدائها وأعداء الدين بإذن الله.
- ومن هذه المنح أنها وحدت موقف أهل فلسطين على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأعراقهم، وقدموا تضحيات بارزة إبان الأحداث، وعلى رأسهم كتيبة غزة العزة رغم الحصار الجائر.
- ومنها عودة القضية إلى صعيدها الإسلامي بعد أن أخرجوها منه إلى الصعيد العربي ثم الصعيد الفلسطيني، ثم قزموها إلى أن تكون قضية بعض الفلسطينيين الذين عادوا إلى فلسطين تحت حراب الغاصبين قبل أن تعود فلسطين إلى أصحابها الشرعيين.
- ومنها أنها أظهرت هشاشة الكيان الغاصب لأرض فلسطين، وأنه لا يستحق أن يطلق عليه الجيش الذي لا يغلب، مع ملاحظة قدرة جيوش المسلمين على التغلب عليه حتى لو لم يكن هشا!
- ومنها أنها حركت مشاعر جميع المسلمين في دول الطوق القريب، ودول الأطواق الأبعد، وصولا إلى المسلمين في بلاد الغرب (أمريكا وأوروبا) والمسلمين المقيمين في باقي دول العالم، وتنوعت ردود أفعالهم تبعا لمواقعهم الجغرافية، فمن كان منهم قريبا من فلسطين زحف نحو الحدود من جهة مصر والأردن والعراق ولبنان، ومن كان منهم بعيدا سار في مظاهرات ومسيرات تندد بالعدوان على غزة والأقصى، وتتوعد بالانتقام، ما أسقط عمليا حدود سايكس بيكو ورايات دويلاتها العُمّية.
- ومنها أنها حركت الدماء التي تجري في عروق العسكريين من الضباط والجنود المسلمين في باكستان وتركيا وغيرها، وهدد بعضهم بتحريك الطائرات لحماية سماء غزة العزة في رسائل تهديد واضحة للحكام.
- ومنها أنها حركت السياسيين وممثلي الناس في مجالس الأمة (البرلمانات)، ووقفوا على منابرهم يعيبون على الجيوش عدم تحركها لنصرة الأقصى وغزة وردع المعتدي بالقوة العسكرية، وينعون على حكامهم الخيانة والتخاذل، وينتقدون الإجراءات التي اتخذت لمنع وصول الزاحفين إلى الأقصى.
ولو أردنا أن نلتمس المزيد من المنح التي حملتها هذه المحنة لما وسعنا مقام كهذا، ولكننا نكتفي بالتركيز على أهم منحة وهي: انكشاف الفئة الشاذة في الأمة الإسلامية التي كانت سببا في منع الجيوش من التحرك لنصرة الكتيبة الغزية المحاصرة، وتخاذلت عن نصرة أهل فلسطين خصوصا والمستضعفين المسلمين عموما، تلك الفئة الضالة المضلة التي نصبها الكفار المستعمرون حكاما وزبانية على بلاد المسلمين بعد هدم دولة الخلافة العثمانية، وجعلهم سيفا مسلطا على رقاب الناس كي يعيقوا تقدم الأمة ويوقفوا نموها ويشلوا حركة جسدها، قد انكشف أمرهم للقاصي والداني، ووقر في يقين الأمة أنهم السبب المباشر في الفقر والجهل والذل الذي أصاب المسلمين منذ أن تولوا أمرهم. هذه المنحة ستجعل أهل القوة والمنعة يسارعون في إجراء العملية الجراحية اللازمة لإزالة هذا الجسم الغريب من جسد الأمة الإسلامية، وذلك بنصرة الداعين الجادين والهادفين لإقامة دولة خلافة المسلمين الثانية الراشدة على منهاج النبوة، على أنقاض عروش أولئك الحكام.
وبهذا العمل فقط يمكن لنا أن نطوي صفحة الذل والكآبة التي ألمت بالمسلمين منذ مائة عام، ونفتح صفحة جديدة بيضاء ناصعة، يطبق فيها الإسلام تطبيقا راشديا، وتسير الخلافة سيرا حثيثا نحو التربع على عرش الدولة الأقوى في العالم، وستكون قادرة بإذن الله على تحرير بيت المقدس واسترداد ما سلبه الكفار من أراض إسلامية، ثم ستتجه إلى فتح روما وباقي بلاد الكفار حاملة معها الهداية والرعاية على أعلى مستوى ممكن، طلبا لمرضاة الله عز وجل، وتحقيقا لقول رسول الله ﷺ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ»، وكان راوي الحديث تميمٌ الدَّاري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخيرُ والشَّرَف والعزُّ، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذُّل والصَّغَار والجِزْية. والحديث مُقْتَبَسٌ من قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾.
وحتى ذلك الحين، ندعو الله لشهداء غزة العزة وغيرها بالرحمة والمغفرة، وللجرحى بالشفاء الذي لا يغادر سقما، وللأسرى والمسرى بقرب الفكاك وكسر القيود، ونغذ السير في طريق العمل مع العاملين لإعزاز هذا الدين بإقامة دولة الخلافة الموعودة والمبشر بها. ويقولون متى هو؟ قل: عسى أن يكون قريبا.
بقلم: الشيخ عصام عميرة – الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع