يُحكم اليوم صندوق النقد الدولي شدّ حباله حول رقبة السلطة في تونس، حيث تواجه البلاد أحلك فتراتها منذ انطلاق أحداث الثورة؛ ذلك أنها تعاني مصاعب مالية واقتصادية تجعل من الحديث عن نُذُر عجز الحكومة عن خلاص أجور الموظفين أو بلوغها حدود الإفلاس متداولا بين الخبراء الاقتصاديين وحتى بين كبار المسؤولين المطلعين على أوضاعها المالية، حد بلوغ مستوى النمو الاقتصادي أدنى مستوياته حين سجل 21.6 بالمائة سلبا في النصف الثاني من عام 2020، بعد أن أدخلها في متاهة حلوله الاقتصادية، أين تاهت الحكومات المتعاقبة في مجاهلها، ولم تعد ترى من حل للتردي الاقتصادي إلا بالقبول بضغوط صندوق النقد الدولي، والقبول بما يفرضه من شروط على الدول التي وقعت في شراكه مع السعي للتخفيف من وطأتها بالتحذير من خطر الغضب الشعبي، للظروف العسيرة التي يحياها الناس، مما ينذر بخطر تمردهم.
في إطار سياسة الخضوع هذه تأتي رحلة حجّ الوفد الذي ترأسه وزير الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار، علي الكعلي إلى واشنطن ليشهد "منافع" للبلد الذي نُكب بأمثال هؤلاء النواطير، وقد شارك في الوفد الرسمي كل من نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فريد بلحاج سافر مع الوفد، والممثل المقيم للبنك الدولي بتونس طوني فارهايجان.
هذه الرحلة التي امتدت لستة أيام، جاءت لإطلاع الإدارة الأمريكيّة وصندوق النقد والبنك الدوليين على جدّية الحكومة الحالية في تونس في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة وأنها تستحق الجائزة حيث وصف الوزير زيارته هذه بالتاريخية! فالوفد سعى لإقناع الأطراف المانحة أن طلب الحكومة الحالية لبرنامج تمويلي لموازنتها للسنوات الأربع القادمة، قد وقع تدارك النقائص التي شابت البرنامج السابق، لسنوات 2016 إلى 2020، والذي كان الصندوق قد وافق بموجبه على إقراض تونس 2.8 مليار دولار لمدة 4 سنوات، لكنها لم تتلق إلا 1.6 مليار دولار، بسبب عجز الحكومة عن تنفيذ مجموعة من الإصلاحات الهيكلية، المطلوبة، مقابل حصولها على هذا القرض.
فرغم الإدراك القطعي لكامل الوسط السياسي والخبراء الاقتصاديين أن شروط صندوق النقد الدولي فرضت خدمة لمصالح القوى الاستعمارية وأن آثارها على اقتصاد البلاد وأمنها المالي ومنعتها، مدمرة، وهم يشهدون التبعة السلبية لسياسة الخضوع لإملاءات المؤسسات العالمية، على كل مناحي الحياة عندنا طوال سنيّ العشرية الأخيرة، إلا أنهم لا يملكون أن يعارضوها أو يرفضوها، لإدراكهم اليقيني أن بقاءهم في السلطة مرهون بالسند الخارجي ولا علاقة له بالدعم الداخلي، حتى صار الفرقاء السياسيون وأغلب "الخبراء" لا يستحي الواحد منهم من القول بأن فشل الحكومات المتعاقبة في إخراج البلاد من أزمتها هو لفشلها في إحسان تنفيذ تلك الإصلاحات الهيكلية التي تشترطها المنظمات الدولية المانحة.
ذهب الوفد إلى واشنطن بعد أن جرت محادثات ومشاورات، محليا، على مختلف الأصعدة لإشراك كل الفرقاء، وضمان تأييدهم للتوجه الذي تم الدفع نحو إقراره، وإسكات كل معارضة، بإشراك الجميع في جرم الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي، فكانت مشاورات "بيت الحكمة" حول الإنعاش الاقتصادي وتنشيط الاستثمار، بحضور محافظ البنك المركزي مروان العباسي ورئيس اتحاد الأعراف سمير ماجول، واتحاد العمال، وعدد من الفاعلين السياسيين وممثلي المنظمات الوطنية، تحت عنوان "مجابهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية"، هي الغطاء السياسي الذي تسلّح به الوفد لتعزيز موقفه أمام ضغوط مسئولي صندوق النقد الدولي. فقد رحبت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي بكون الإصلاحات ذات الأولوية لتونس كانت موضوع حوار بين الحكومة التونسية والشركاء المجتمعيين والشركاء الدوليين.
إنه وإن لا زالت وثيقة الإصلاحات الحكومية التي قدمها الوفد التونسي لصندوق النقد الدولي، "تدرس" من خبرائه، إذ من المنتظر أن يعلن عن موقف الصندوق من مطالب السلطة التونسية خلال شهر حزيران/يونيو القادم، فإن الضغوط الدولية على الطرف التونسي تتركز على وجوب القبول والالتزام بشروط الدائنين، لليقين المدرك للآثار السلبية المهلكة على أهل تونس، وأنها لن تنهض بالاقتصاد كما يدعون، فهي أينما طبقت على وجه الأرض أهلكت الحرث والنسل.
وما صندوق النقد الدولي، كسائر المؤسسات والمنظمات الدولية، إلا أدوات أنشئت لتحقيق ورعاية مصالح الدول الكبرى. فشروطه التي يعمل على فرضها على أهل تونس الكرام، على أيدي طغمة تمكن منها وسلبها كل إرادة، مع ما يعانونه من فقر وبطالة وارتفاع أثمان السلع والخدمات وتدني قيمة العملة وسوء رعاية، سيكون أثرها على المغلوبين المسحوقين كارثية، ولا يبالي.
- فإلغاء الدعم عن المواد الغذائية والكهرباء والغاز بذريعة توجهه نحو مستحقيها ما هو إلا فرية يراد بها تضليل الناس ومخادعة البسطاء الذين لا حول لهم ولا طول.
- وإيقاف الانتدابات، والتقليص من كتلة الأجور، تحطيم لآمال الشبيبة المتحفزة للحياة بتفجير الطاقة الكامنة لديها، ودفعها للهجرة.
- التفريط في المؤسسات العامة وضرب المرفق العام وتمكين الرأسمال الأجنبي من مقدرات البلاد وضرب مصالح الناس وتحويلها منظومات ربحية فاحشة لفائدة أصحاب رؤوس المال المتوحشة وتدمير منظومة الإنتاج الأهلية.
وهي في الحقيقة شروط مجرمة، قاسية على كل الطبقات المجتمعية إلا على القلة المرتبطة بالدوائر الاستعمارية.
يجري كل ذلك فتتخذ القرارات وتنفذ في الواقع دون أن تلقي تلك النواطير بالاً للناس، في مسابقة للزمن للوقوف أمام الثورة الحقة، على أساس الإسلام، والتي هلّت نسائمها وعبق طيبها، وسرى في الآفاق عُرفها، ولم تعمَ عنها إلا القلوب الغلف.
رأيك في الموضوع