لقد نشأ كيان يهود نشأة غير طبيعية في كافة الأمور، ومن الطبيعي جدا أن يولد هذا الكيان مأزوما ويبدو لي أن الإنجليز كانوا يدركون أزمة هذا الكيان من حيث النشأة والوجود والبقاء فكانت فكرتهم إدماجه في المنطقة دون أن يكون له كيان خاص به بل لا بد له من حاضنة سياسية وغطاء سياسي عربي على أن تكون ليهود اليد الطولى.
أما من حيث أزمة اليهودية والتكوين والانسجام الداخلي، فمما لا شك فيه أن كيان يهود أشد ما يكون انقساما، فمثلا اليهود القادمون من أوروبا الشرقية "الأشكناز" والذين كانت لهم الغلبة منذ البداية وتمثلت بحزب العمل ويهود السفارديم ثم الجدل الذي لا ينتهي حول أزمة "من هو اليهودي؟" والكل يعلم أن الديانة اليهودية ديانة محرفة، حيث يتبنى بعضهم أن اليهودي من ولد من أم يهودية فتنتقل الديانة عندهم عبر رحم الأم، وبين يهودي وعلماني، وبين يهود الفلاشا المشكوك في أمرهم والمهجرين لدوافع سياسية خدمية، وبين شرقي من الشرق الأوسط وبين شرقي من دول أوروبا الشرقية، فضلا عن حتمية الهجرة لكيان مأزوم بعقلية الجيتو مع إشكالية الهوية... ولن أجد أبلغ من قوله تعالى في وصف يهود حيث قال سبحانه: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾.
وأزمة الوجود في محيط يحمل العقيدة الإسلامية ويرفض وجودهم والعلاقة معهم ككيان سياسي محتل لأرض الإسلام ويرفض العلاقة معهم والتطبيع بعيدا عن الاتفاقيات التي عقدت بينهم وبين الأنظمة السياسية، فلا زالت الأمة تنظر لكيان يهود من زاوية ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ وحديث رسول الله ﷺ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ» رواه البخاري ومسلم.
وأزمة العلاقة مع الغرب قد يبدو هذا الأمر غريبا بداية، فكيف تكون علاقة كيان يهود مع الغرب مأزومة وهم الذين أقاموه وهم سبب وجوده وسر حياته؟ وفي الحقيقة أن علاقته مع الغرب متعلقة بمشروع الغرب نفسه ومصالحه بالدرجة الأولى، لكن يهود يحاولون فرض إرادتهم واستقلالهم السياسي بعيدا عن مصالح الغرب ونظرته، ومن هنا نفهم طبيعة الاختلاف بينهم وبين الغرب. ولعل لسائل أن يسأل: ألا يسيطر اليهود على القرار السياسي العالمي وخاصة في أمريكا؟ ونقول للأسف هذه الخرافة السياسية الشائعة والتي تكاد تكون قناعات رسخت عند أهل المنطقة لعقود نتيجة التضليل السياسي، وإن كانت هذه الخرافة قد يعذر حاملها في أوقات معينة ولكن الأحداث السياسية العالمية تدل بشكل قطعي أن قرار يهود متعلق بإرادة الغرب وفق مصالحه، وإن تعارضت مصالح الغرب مع إرادة يهود فلا قيمة لإرادة يهود. والأمثلة باتت أكثر من أن تحصى؛ فمثلا لو كان يهود يملكون القرار السياسي لأمريكا فلماذا تحدث الخلافات التي وصلت مستوى خطيرا في بعض المراحل أيام حكم أوباما والنووي الإيراني وقد عادت لكن بنبرة أضعف من جهة يهود في عهد بايدن؟ فمثلاً عن مصادر عليمة جدا في كلٍّ من واشنطن وتل أبيب، أكّد موقع (WALLA) الإخباريّ العبريّ، أنّ المؤسسة الأمنية في كيان يهود أصيبت بخيبة أمل من نتائج المحادثات التي أجراها أعضاء وفد يهود الذي سافر إلى واشنطن، بهدف التأثير على تفاصيل الاتفاق النووي الذي يتبلور بين القوى العظمى وإيران، كما قالت المصادر (جريدة رأي اليوم)، والجاسوس جوناثان بولارد الذي قضى 30 عاما في السجن في أمريكا بتهمة التجسس لصالح تل أبيب بالرغم من كل تدخلات زعماء يهود فلم تخرجه أمريكا بل قضى مدته ثم منع من السفر لمدة خمس سنوات وكان مما قاله لصحيفة "إسرائيل هيوم"، إن الحكومة الأمريكية كانت تخفي معلومات استخباراتية عن (إسرائيل) وتكذب عليها، عندما تعاون مع تل أبيب، مشيرا إلى أنه شاهد ذلك بنفسه في الاجتماعات. وقال "أعرف أنني تجاوزت خطا، لكن لم يكن لدي خيار آخر"، مضيفا أن التهديدات التي تواجه كيانه "خطيرة". وانسحاب كيان يهود من سيناء تحت طلب الرئيس الأمريكي الذي غطي بغطاء سوفيتي آنذاك حماية لعبد الناصر، والكل يعلم كيف منعت أمريكا مشاركة يهود في حرب الخليج وأرسلت له وزير الخارجية مرابطا عندهم خشية تفكك التحالف وردة فعل أهل المنطقة في حال مشاركتهم في الحرب، ومن يمنع دولة يهود من ضرب مفاعل إيران ويخبرها إن فعلت ستتحمل النتائج في ظل الاتفاق النووي مع إيران؟ ولماذا نذهب بعيدا في هذه المسألة لماذا يفرض على كيان يهود الحلول الغربية سواء حل الدولة أو الدولتين، وأين حل يهود بعيدا عن خرافات اليمين وأحلامهم؟ ولماذا تصر أمريكا على حل الدولتين منذ ١٩٤٧ ولماذا تم ويتم تعطيله طيلة تلك السنوات؟ فإن كان الحل يهوديا لماذا لم تنفذ إرادتهم ورؤيتهم للحل؟ وإن كان أمريكيا، وهو كذلك، من الذي يحاول منعه بالرغم من تبني العالم كله له؟ فالحديث عن أزمة علاقة كيان يهود مع الغرب هو حديث سياسي يدركه من أنار الله بصيرته منذ البداية، وإن كانت أزيلت عنه الغشاوة حديثا نتيجة ظهور الخلاف نوعا ما إلى العلن.
وأزمة فقدان العقلية السياسية والعسكرية، ولا أقول المبدئية لانعدامها أصلا، فقيادات يهود الحالية هي قيادات غير سياسية وهذا باعتراف دنيس روس الذي جمع أكثر من ١٢٠ شخصية يهودية في القدس لقراءة الأخطار التي تواجه يهود وكان منها فقدان القيادات السياسية والعسكرية، أما نتنياهو فهو عندهم خطيب عنيد وليس سياسيا ويدافع حاليا عن شخصه بوجوده في الحكم تحت أي اعتبار لعلمه أنه إن خرج فسوف يحاكم ويسجن، وإن بقي في الحكم فالضغط الأمريكي كبير عليه وقد يقدم تنازلات وليس مستبعدا إنهاء وجوده قتلا كما حدث مع رابين وقيل عن شارون.
وهناك أزمة الوجود التي يحلم بعضهم بمحاولة تتمة المائة عام فقط فهم على يقين بقرب زوال كيانهم خاصة إذا علمنا أنهم ذكروا أن من الأزمات الخطيرة أزمة موت المشروع الوطني والقومي وصحوة المشروع الإسلامي.
إن كيانا زرع في غير رحمه من الصعب له أن يعيش إلا على أجهزة التنفس الاصطناعي، وهو كيان قائم على غيره ولن يستطيع البقاء طويلا خاصة وأن الأزمات الداخلية والدولية والإقليمية أصبحت تلاحقه. ولن يكون للأزمات كلمة الفصل في إنهاء وجوده وإن كانت ستصيبه بضعف شديد حتى يأذن الله بقيام دولة الإسلام وسيكون لها شرف تحقيق نبوءة رسول الله ﷺ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ» رواه مسلم. وإن غدا لناظره قريب.
رأيك في الموضوع