إن للغرب تاريخاً مع الخلافة، فهو يدرك حقيقتها وخطرها عليه حسب نظرته، فقد وصلت إلى عقر داره، وأسقطت عاصمتهم الشرقية القسطنطينية وكادت أن تصل عاصمتهم الغربية روما، وهي على موعد معها، والخلافة وسقوط عاصمتي الغرب بشرى رسول الله ﷺ، ومبشراته كلها صادقة، لأنها وحي من الله.
فالغرب يعمل بكل قواه لمنع قيامها، فهو يعلم أنها إذا أقيمت فسيحرم من مناطق نفوذه واستعماره، وستعود تحمل إليهم الخير وهم عازفون عنه، إذ زُين لهم سوء أعمالهم فيرونها حسنة.
ولهذا فهو ينسج بكل ما تفتقت عنه عقليته الشريرة خططا وحيلا خبيثة لوأدها، فيخوض حروبا فكرية ودموية وسياسية واقتصادية ونفسية وإعلامية مع المسلمين. ومن شدة مكره فهو لا يشعرهم بأنه يخوض معهم هذه الحروب، يحارب دينهم ويمعن فيهم قتلا ويستولي على بلادهم وخيراتهم وهو يقول لهم إنه يحارب الإسلام السياسي والراديكاليين والمتطرفين والإرهابيين، وكأن هؤلاء بضعة أفراد ليسوا من المسلمين الذين يؤمنون جميعا بأن الإسلام نظام شامل للحياة، وأنه دين ومنه الدولة! وأطلق هذه الألفاظ بعدما سقط عدوه الاتحاد السوفيتي والشيوعية، وأعلن كما ورد على لسان وزير الدفاع الأمريكي السابق ديك تشيني في مؤتمر ميونخ للأمن العالمي عام 1992 أن عدو الغرب القادم هو الإسلام السياسي، وبدأ يرسم الخطط لكيفية القضاء على الإسلام كفكرة سياسية تقام عليها دولة والعاملين لها. فأصبحت محاربة عودة الإسلام إلى الحكم متجسدا في الخلافة حجر الزاوية في سياسته، بل أصبحت سياسة دولية تبنتها كل الدول عندما تبنت محاربة الإسلام. وما احتلال أفغانستان والعراق إلا جزء من هذه الحرب. ولهذا أعلنها رئيس أمريكا السابق بوش الابن حربا صليبية استباقية لمنع قيام الخلافة سماها مغالطة "إمبراطورية"، فقال يوم 6/10/2005 "عند سيطرة الأصوليين على دولة واحدة سيستقطب هذا جموع المسلمين ما يمكنهم من الإطاحة بجميع الأنظمة في المنطقة وإقامة إمبراطورية أصولية إسلامية من إسبانيا إلى إندونيسيا"، وقال رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير يوم 16/7/2005: "إننا نجابه حركة تسعى إلى إزالة دولة (إسرائيل)، وإلى إخراج الغرب من العالم الإسلامي وإلى إقامة دولة إسلامية واحدة تحكّم الشريعة الإسلامية في العالم الإسلامي عن طريق إقامة الخلافة لكل الأمة الإسلامية".
عندما هدم الغرب الخلافة أوجد عوائق كثيرة لمنع إقامتها من جديد؛ فنشر القومية والوطنية والاشتراكية والديمقراطية والعلمانية، وأنشأ أحزابا تدعو لهذه الأفكار الفاسدة بجانب الأنظمة العميلة التي أقيمت على هذه الأفكار، ومزق البلاد إلى دول تحرص على التمزيق أيما حرص باسم حماية الوطن! ووضع دساتيرها وقوانينها وبرامجها التعليمية والتثقيفية والإعلامية ونصب حكاما تابعين له، وجعلهم يبطشون في كل من يدعو للخلافة. وهو يستعد للتدخل في أية لحظة إذا رأى أن الأمور ستفلت من أيديهم.
فعندما قامت الثورات عام 2011 في البلاد العربية ضد عملائه هبّ يتآمر عليها بكل الأساليب حتى يحول دون سقوط الأنظمة التابعة له، ويحول دون إقامة الخلافة، فقال الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما يوم 8/8/2014 "لن نسمح لهم بإقامة خلافة بصورة ما في سوريا والعراق. ولكن لا يمكننا فعل ذلك إلا إذا علمنا أن لدينا شركاء على الأرض قادرين على ملء الفراغ" أي عملاء من أنظمة وتنظيمات. وقال وزير خارجية روسيا لافروف يوم 3/10/2019 "الهدف الروسي في سوريا كان محاربة المتطرفين الذين سعوا إلى خلق خلافة شبه دولة على مساحات واسعة من دول المنطقة بما يعنيه ذلك من كارثة على العالم".
وحال الغرب دون عودة الإسلام إلى الحكم بواسطة الانتخابات، فعندما نجحت الجبهة الإسلامية بالجزائر في الانتخابات عام 1992 جن جنون فرنسا فقال رئيسها حينئذ فرانسوا ميتران "لن نسمح بإقامة دولة إسلامية في الجزائر" وأوعز إلى عملاء فرنسا بالجيش الجزائري للقيام بانقلاب وشن حرباً دموية دامت عقدا ذهب ضحيتها نحو 200 ألف مسلم. وفرض الغرب على من يريد أن يدخل الانتخابات ألا يحمل معه مشروعا إسلاميا. ومع ذلك يراقب هؤلاء الإسلاميين الذين وصلوا إلى الحكم بدون مشروع إسلامي ويعمل على إسقاطهم حتى يقال إن الإسلام فاشل كما حصل في مصر مع مرسي وجماعته، ومن بقي منهم في الحكم يسلخه من جلده نهائيا ويضطره لأن يعلن تخليه عن تطبيق الإسلام وأن مشروعه علماني كالغنوشي في تونس وأردوغان في تركيا وأتباعهما.
وأدرك مفكرون غربيون حقيقة الأمر، فقالوا "بضرورة التعايش مع الخلافة الإسلامية لأنه لا مناص من عودتها" "فرفضت أمريكا ذلك، وأوجدت جبهتين: عالمية وإقليمية تشمل الأنظمة في البلاد الإسلامية وأتباعها"، من هؤلاء المفكرين؛ الكاتب الأمريكي البارز جاي تولسون ويرى أن "الغرب أساء فهم فكرة الخلافة واعتبرها مفهوما غامضا مهددا له في حين إنها عميقة الجذور في الذاكرة الثقافية للعالم الإسلامي". ومنهم المحلل المشهور جون شيا فقد وجه رسالة لأوباما يوم 11/1/2010 طالبه "بفتح مصالحة مع الخلافة الخامسة التي لن تستطيع القوات الأمريكية الوقوف في وجهها أو مجابهتها، وقال: الحقيقة الجلية هي أنه لا يستطيع أي جيش في العالم ولا أي قوة عسكرية مهما بلغت درجة تسلحها أن تهزم فكرة عقائدية، يجب أن نقر بأننا لا نستطيع أن نحرق قادة هذه الفكرة في كل بلاد الشرق الأوسط ولا أن نحرق كتبها أو ننشر أسرارها، ذلك لأن هناك إجماعا بين المسلمين على هذه الفكرة، إن الشرق الأوسط يواجه اليوم القوة الاقتصادية الموحدة للدول الأوروبية، هذا صحيح، لكن علينا أن نعرف أنه في الغد سيواجه الغرب القوة الموحدة لدولة الخلافة الخامسة".
وقال البروفيسور تسيفي سفر المحاضر في العديد من الجامعات الأمريكية واليهودية يوم 26/1/2018 "في غضون عقد من الزمان ستتوقف أمريكا عن لعب أي دور خارجي، وذلك لأول مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية مما يفسح المجال أمام بروز الإمبراطورية الإسلامية" (ويقصد الخلافة) وجزم بأن "الإسلاميين هم من سيتولى حسم مصير العالم خلال عشرات السنين القادمة ويقررون ما يدور فيه".
إن الخلافة لقائمة بإذن الله ولو كره الكافرون، لأنها وعد من الله باستخلاف المؤمنين العاملين للصالحات العازمين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فلم يتنازلوا ولم يهادنوا ولم يبدلوا، كحزب التحرير، ووعدهم بالتمكين وبالأمن. وهي بشرى رسول الله ﷺ «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ».
رأيك في الموضوع