بدأت أزمة الخبز في السودان منذ ثمانينات القرن الماضي، وذلك عندما تدخل صندوق النقد الدولي فيها، بسياساته الاستعمارية، التي غير بها مفهوم ثقافة التغذية، وذلك بجعل القمح هو الغذاء الرئيسي الذي تعتمد عليه البلاد، فأهل السودان كان غذاؤهم الرئيسي هو الذرة والدخن، أما القمح فكانوا نادراً ما يأكلونه.
في سنة 1975م اقترح كيسنجر على رئيس أمريكا جيرالد فورد، اتباع سياسات تحد من زيادة السكان، سواء في أمريكا اللاتينية، أو فيما يسمى بدول العالم الثالث، فكان من بين هذه السياسات، تقليل السكان، وسياسات تحد من قدرة تلك البلاد على إنتاج الغذاء، ثم اقترح أن يطرح القمح الأمريكي في أسواق العالم بأسعار تقل بكثير عن تكلفة الإنتاج المحلي، وطلب من مدير المخابرات المركزية، ووزراء المالية والدفاع والزراعة، التعاون مع مستشار الأمن القومي الأمريكي.
فمنذ دخول السودان في منظومة صندوق النقد الدولي الذي من سياساته الأساسية ما يسمى (برفع الدعم) عن السلع الأساسية، فكان أن اتجهت كل الحكومات منذ عهد النميري وإلى الحكومة الانتقالية الحالية، إلى تنفيذ تلك السياسة التدميرية للأراضي الزراعية، ولنأخذ مثلا، للحكومة الانتقالية الحالية في العروة الشتوية 2020م:
فقد حددت الحكومة الانتقالية السعر التركيزي لسعر القمح 3 آلاف جنيه، وربطت المزارع بالبنك الزراعي، الذي يرتبط بالبنك الدولي ارتباطاً وثيقاً، في شرائه المعدات والمبيدات والتقاوي. فالبنك الزراعي يعطي المزارع ما يحتاجه بالربا، ويفرض عليه أن يبيع له المحصول بالسعر الذي فرضته الدولة؛ 3000 جنيه، في الوقت الذي فيه سعر الجوال في السوق 6000 جنيه، ثم وقبيل نضوج المحصول، أشاعت الحكومة الانتقالية، أن فلول النظام السابق حرقوا المحصول، وكان القصد من هذه الفرية أن لا يخرج أي شيء من هذا المحصول من يد البنك الزراعي وسياساته التدميرية، التي تصب في مصلحة الرأسمالية المتوحشة. وكان من جراء ذلك أن دخل المزارع السجن لعدم قدرته على سداد الديون وفائضها، وترك مهنة الزراعة.
ولتنفيذ سياسات صندوق النقد الدولي التي تتعلق برفع الدعم، كان على الدولة أن تروض الشعب؛ بصنع الأزمة، واحتكار بعض الشركات للقمح. ففي عهد الإنقاذ كانت الـ10 أرغفة بجنيه، ثم صنعت الأزمة فأصبحت الـ5، ثم الـ3 أرغفة بجنيه، وفي آخر أيامها كان الرغيفان بجنيه، وعندما جاءت الحكومة الانتقالية، أصبح الرغيف الواحد فقط بجنيه، والآن بعد تجدد الأزمة، والناس يقفون في صفوف الأفران منذ الثلث الأخير من الليل، حتى يتحصلوا على الخبز المزعوم أنه مدعوم، والذي أصبح سعر الواحد منه 5 جنيهات، والتجاري 15 جنيها، فتذمر الناس من هذه السياسات، وأصحاب المخابز أعلنوا إضرابهم بعدم أخذ الدقيق المدعوم، لأن هناك زيادات في كل مدخلات إنتاج الخبز، بدءاً من الدقيق الذي كان بحساب 500 جنيه للجوال، فأصبح بـ570 جنيها، والتجاري بحساب 6500 جنيه، وهناك زيادات في الخميرة، فأصبحت الكرتونة بحساب 11000 جنيه، وجركانة الزيت من 4000 إلى 8000 جنيه، والكهرباء زادت أكثر من 600%.
هكذا أصبح القمح الذي يصنع منه الخبز لمعظم أهل السودان لعبة في أيدي سدنة النظام الرأسمالي؛ باحتكاره، ورفع أيدي الدولة عن رعاية شؤون الناس، بل بفرض ضرائب إضافية على مدخلات الإنتاج، وكل ذلك من أجل إرضاء أسيادهم الكفار الذين أوصلوهم لكراسي الحكم.
أما كيف الخروج من هذه الأزمة؟ فابتداء الخروج من صندوق النقد الدولي، لأنه يجعل سلطاناً للكافرين علينا والله عز وجل يقول: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾، والأمر الآخر اعتماد سياسة زراعية ليس للاكتفاء الذاتي فقط، وإنما للتصدير، وذلك بزراعة الأراضي البور، فالأرض لمن يفلحها، فقد أجمع الصحابة على أنه لا حق لمحتجر بعد ثلاث سنين، وكان ذلك في عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه. الأمر الآخر عدم فرض ضرائب على السلع والخدمات، لقوله ﷺ: «إِنَّ صَاحِبَ الْمَكْسِ فِي النَّارِ».
هذه الأحكام وغيرها لا يمكن أن تطبقها دولة وطنية ترتبط بالدول الأجنبية، وإنما دولة تقوم على أساس الإسلام، وقد سمي حاكمها راعياً؛ لأنه يرعى شؤون رعيته، قال ﷺ: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ»، فالسودان فيه 200 مليون فدان صالحة للزراعة، فإن زرع 100 مليون فدان - علما أن إنتاج الفدان ما بين 1,5 إلى 3 طن - يساوي مائة مليون وخمسمئة طن، واحتياج السودان من القمح سنوياً 2 مليون طن، يعني المفروض أن يكون الرغيف مجاناً.
فإذا اتبعت هذه السياسة، حينها تعالج مشكلة البطالة، ويتم تصدير الفائض، وهذا يحتاج إلى راعٍ مخلص، روي أنه في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، جاءه مسؤول القصر وأخبره بحصول أزمة خبز في مدينة إسطنبول، فخرج السطان عبد الحميد مستخفياً، حتى يتحقق من الأمر، فوجد أن سبب المشكلة هم أصحاب النقابات، يريدون خلق أزمة سياسية، فرجع إلى القصر، وأصدر (فرمانا) بمعاقبة كل من تسبب في هذه الأزمة من أصحاب النقابات، ثم بعد ذلك أمر العمال في القصر، والثكنات العسكرية، بصنع الخبز وتوزيعه لأهل إسطنبول قبل صلاة الفجر! هكذا تكون الرعاية، «فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع