"الرجال وليس الأحجار من يشكل سور المدينة"، هذا قول للفيلسوف الإغريقي أفلاطون، وهو يتحدث عن أن حماية الحضارات لا تتم بمجرد بناء الأسوار حولها، بل بانطلاق الجنود الذين يقطعون أسوار حدود دولهم إلى أماكن أعدائهم، أو موقع قريب من عدوهم، أو أراضي حلفائهم يتحصنون فيها، ويمنعون الخصوم من مجرد التفكير في غزو أراضيهم. وما يغلب على الظن أن هذه الفكرة هي التي بنى على أساسها الاستراتيجيون والعسكريون فكرة القواعد العسكرية، وهي ليست فكرة حديثة، حيث استخدمتها الإمبراطورية الرومانية، يؤكد المؤرخ البريطاني أرنولد توين أن إقامة قواعد عسكرية شكلت المنهجية الأساسية التي مكنت روما من فرض نفوذها السياسي على العالم، وجعلتها تقترح على حلفائها المساهمة في توفير الحماية لهم، في مقابل التنازل عن مناطق محصنة من أراضيهم لبناء قواعد عسكرية.
أما في العصر الحديث، وبخاصة أيام الحرب الباردة، فقد انتشرت القواعد العسكرية بشكل غير مسبوق، وذلك لتحقيق أهداف عسكرية واستراتيجية. يقول الباحث مورغان باعليا، إن القوى الكبرى تعتمد على القواعد العسكرية لتحقيق أهداف رئيسية منها:
1- التدخل في مناطق النفوذ للدفاع عن مصالحها.
2- ضمان أمن حلفائها.
3- مراقبة أراضي الخصوم.
4- نشر أفكارها ومناهجها وما تبشر به كالحرية والديمقراطية وغيرها.
كذلك تعمل من خلالها القوى الكبرى على تحقيق مصالحها التجارية، والسيطرة على المواقع الاستراتيجية وغيرها من الأهداف.
وفي الثلاثة عقود الأخيرة انتشرت فكرة القواعد العسكرية بكثافة؛ ففي العام 1990م، وضع ديك تشيني الذي كان وزيراً للدفاع في عهد بوش الأب عقيدة جديدة تدعو إلى تأمين هيمنة الولايات المتحدة على العالم خلال القرن الواحد والعشرين، وتطورت هذه الاستراتيجية، وعرفت بمشروع القرن الأمريكي الجديد، وهو إقامة القواعد العسكرية في آسيا الوسطى، والشرق الأوسط، وهو ما نشاهده على أرض الواقع.
أما روسيا، فبعد صعود بوتين إلى سدة الحكم شرع في تحديد هدف استراتيجي، هو إعادة مجد الاتحاد السوفيتي القديم، فبدأ ببناء قواعد عسكرية في مناطق استراتيجية في محيط أوراسيا، والبحر الأسود، كما عززت وجودها في شرق أوروبا، فضلاً عن وجودها في شرق المتوسط في سوريا من خلال قاعدتها في طرطوس، وحميميم، وحالياً لها وجود في ليبيا في قاعدة سرت وتسعى لمزيد من بناء قواعد لها هناك. وقد وقعت مؤخراً اتفاقاً مع حكومة السودان لبناء قاعدة لها على البحر الأحمر.
ففي يوم الخميس 23/11/2018م صدر خبر مفاده أن الرئيس البشير قد عرض خلال لقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في منتجع سوتشي إقامة قاعدة روسية في البحر الأحمر. وبعد الإطاحة بالبشير أكدت السلطات السودانية الجديدة تمسك الخرطوم بالاتفاقيات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع روسيا.
وفي أيار/مايو 2019 تم تفعيل اتفاق دخول السفن الحربية في موانئ البلدين.
وفي تشرين أول/أكتوبر 2019م أعلن بوتين لدى لقائه رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، على هامش القمة الروسية الأفريقية في مدينة سوتشي دعم السودان من أجل تطبيع الوضع السياسي الداخلي.
كذلك اللقاء الذي جرى بين رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف على هامش الدورة (74) للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أكدا على السير في المنحى نفسه.
ومؤخرا كشفت الحكومة الروسية أنها توصلت إلى اتفاق مبدئي مع السودان من أجل بناء قاعدة بحرية للأسطول الروسي في مدينة بورتسودان، وأعلن رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين أن الحكومة وافقت على الاتفاق في 06/11/2020م. وبذلك استطاعت روسيا أن تجد لها موطئ قدم، بعد أن سعت منذ القرن الماضي لوضع رجلها على الأراضي الأفريقية، ففي الستينات فشل الرئيس بيكيتا في الحصول على أرض مصرية يقيم عليها قاعدة عسكرية بالرغم من علاقته بالرئيس جمال عبد الناصر، كما فشلت روسيا في جميع مساعيها للحصول على أرض في أفريقيا، ويذكر أن جمهوريات (أنغولا، والكونغو الديمقراطية، والجزائر) قد رفضت إنشاء قاعدة روسية على أراضيها، وكانت هناك محاولات روسية في ليبيا إبان حكم القذافي ولكنه كذلك رفض الطلب.
والآن أكملت الحكومة الانتقالية في السودان مساعي الرئيس السابق عمر البشير، وجعلت للروس موطئ قدم في أهم مدن السودان، ميناء بورتسودان، أشاد به الأدميرال الروسي المتقاعد فيكتور كرافيشنكو في تعليق لوكالة إنترفاكس حيث قال: "إن روسيا ستعزز من إنشاء قاعدة بحرية في السودان، وجودها في أفريقيا، وتوسع القدرات العملياتية للأسطول"، وأضاف "في الواقع سيكون لروسيا قاعدة على البحر الأحمر، هذه منطقة متوترة، الوجود البحري الروسي هناك ضروري"، وأضاف أيضاً: "أن المركز اللوجيستي في السودان مهم"، ولفت إلى أنه "في المستقبل يمكن أن يصبح المركز اللوجيستي في السودان قاعدة بحرية كاملة".
وبحسب نص الاتفاقية التي نشرت في موقع العربي الجديد، فإن مدة الاتفاقية 25 عاما قابلة للتمديد تلقائياً لمدة 10 سنوات على التوالي في حالة عدم إخطار أي من الطرفين خطياً بنيته إنهاء الاتفاق. كما تنص على أن لا يتجاوز عدد السفن الحربية الروسية في القاعدة 4 سفن بما في ذلك السفن العاملة بالطاقة النووية. وبحسب الاتفاق يجب ألا يزيد عدد العسكريين عن 300 جندي، ويمكن زيادة العدد باتفاق الطرفين، ويشير مشروع الاتفاق إلى أن افتتاح قاعدة الدعم التقني للقوات البحرية الروسية يلبي أهداف السلام والاستقرار في المنطقة، ويحمل طابعاً دفاعياً، ويتمتع الجنود الروس وعائلاتهم بحصانة دبلوماسية بمقتضى معاهدة فينّا، ولم يحدد الاتفاق شروطاً مالية لاستئجار المناطق البرية والبحرية، لكنه ينص على أن تقدم روسيا للسودان مجاناً أسلحة ومعدات عسكرية، بهدف تنظيم الدفاع الجوي للمركز اللوجيستي المقترح. وبحسب الاتفاق يمكن لروسيا الحصول على مساحات إضافية تحددها بروتوكولات إضافية!! ومن الواضح أن هذه القاعدة العسكرية اللوجيستية الروسية في السودان، قابلة للتطور إلى قاعدة كاملة كما حصل مع القاعدة العسكرية الروسية في طرطوس بسوريا.
لقد أطلق بعض المتابعين لفظ "الاستعمار الناعم" على القواعد العسكرية، وهو اسم ينطبق على الواقع، فهذه القواعد هي حقاً نوع من أنواع الاستعمار، وقد رأينا كيف تتحكم القواعد العسكرية الأمريكية في العراق ودول الخليج وكذا تتحكم القواعد العسكرية الفرنسية في غرب أفريقيا "ساحل العاج ومالي وتشاد وغيرها"، فهي تشعل الحروب، وتدبر الانقلابات العسكرية، وتسيطر على كثير من البلدان سيطرة تامة.
وبعد كل ذلك، كيف بهؤلاء الحكام الرويبضات في السودان أن يجلبوا الاستعمار إلى شعوبهم، وذلك بعد أكثر من ستة عقود من خروج الجيش البريطاني من السودان؟! إنه الذل والهوان، حقا من ابتغى العزة في غير الإسلام أذله الله سبحانه وتعالى.
رأيك في الموضوع